بعد استعراض المفاهيم الثلاثة الكبرى التي تدور العمارة (أي عمارة) في فلكها وهي الحضارة، والدولة، والثقافة، أين يندرج يا تُرى مفهوم العمارة الإسلامية؟
وللإجابة المختصرة عن هذا السؤال يمكن القول إنها تندرج تحت كل هذه المفاهيم، ومع ذلك فإنه من المفضل استخدام كل من هذه المصطلحات الثلاثة في سياق تاريخي وجغرافي خاص.
فعلى سبيل المثال يمكن القول عن العمارة الفاطمية أو المملوكية، وكلاهما في مصر وبلاد الشام، إنها عمارة حضارة إسلامية، وهي عمارة دولة أيضًا وعمارة ثقافة. في حين يمكن القول إن عمارة الأغالبة في تونس على سبيل المثال، هي عمارة دولة، كما يعكس جامع عقبة بن نافع في القيروان باعتباره الجامع الأب لجوامع شمال أفريقيا.
وبالرغم من أهمية الجامع إلا أن عمارته لا يمكن أن تندرج تحت عمارة الحضارة؛ نظرًا لقِصَر عمر دولة الأغالبة (عمرت قرابة قرن واحد فقط)، وللشكل العام لعمارة الجامع وتفاصيله. وفي غياب الدولة تغيب الحضارة، وتصبح العمارة تعبيرًا عن ثقافة مجتمعات ما قبل الدولة. وتندرج عمائر الظل في مختلف أنحاء العالم الإسلامي بمختلف مسمياتها وإحداثاتها التاريخية (عمارة تقليدية، عامية، شعبية، إلخ)، تحت مظلة عمارة الثقافة بامتياز.
لقد سال حبرٌ كثيرٌ في الكتابة عن مصطلح العمارة الإسلامية. والمصطلح ذاته غربي المنشأ، تلقفه العرب والمسلمون، وبدلًا من أن يضيفوا إليه ويبدؤون من حيث انتهى الغربيون، إذا هم يقفون عند ربط العمارة بالدين، ويذهبون في فهم وتفسير العمارة الإسلامية مذاهب شتى حادت به عن طريق الصواب.
إن التفصيل في المصطلح ذاته بحاجة إلى أكثر من مقال، بل هو بحاجة إلى طرح جديد كليةً في حقول معرفية كثيرة تنعكس كلها بصورة مباشرة أو غير مباشرة في العمارة.
وإلى أن يتم ذلك يبقى موضوع العمارة الإسلامية كمحتوى ومضمون هو الأكثر إلحاحًا بالبحث والتمحيص. وكما تم تقديم المجالات الثلاثة للعمارة أعلاه، يمكن الحديث عن محتويات ومضامين مختلفة للعمارة الإسلامية.
لقد عكست عمارة الحضارات الكبرى في تاريخ الإسلام مجتمعات وسلطات استمتعت بقدر كبير من الاستقرار السياسي والرفاه الاقتصادي والحكم الرشيد. وارتقت العمارة في هذه الحضارات إلى حد الكمال. انظر إلى إبداعات أباطرة مغول الهند في مدنهم وقلاعهم وقصورهم وأضرحتهم.
إن النظر إلى تاج محل، والعيش في مدينة فاتح بوسكري، والصلاة في جامعها، وكلها في مدينة أجرا، والتنزه في أجنحة قلاع دلهي كفيل للمرء بأن يدرك إلى أي مدى يمكن للعمارة أن تصله.
هذه مبانٍ من رخام وحجر حوَّلتها يد الإنسان الماهر إلى أعمال تكاد من حسنها تنطق شعرًا.
قبة سلطانية في بلاد فارس بناءٌ مهيبٌ ارتفاعًا وزخرفًا وإنشاءً. هذه القبة من ضمن الأعلى في تاريخ العمارة الإسلامية، وقد بناها الإمبراطور المغولي محمد خودابند عام 1304 للميلاد، بعد اعتناقه الإسلام. هذا البناء الفرد محاط اليوم بأطلال المدينة التي بُني ضمن نسيجها، والتي يحمل اسمها كعاصمة ثانية للأليخانات المغول.
مشهد القبة في سياقها البانورامي ذلك، وهي تشرئب فوق أطلال المدينة، يعكس صورة جلية لمفهوم عمارة الدولة. فقد اختزل عصر الأليخانات بمجمله في هذا البناء (هناك أبنية تتناثر هنا وهناك، لكنها لا تقارن من حيث الحجم والأهمية بقبة سلطانية). يبدو وكأن وجود الدولة حدث عارض في تاريخ الإسلام، وقد أسهب محمد جابر الأنصاري في تحليل سوسيولوجية الدولة في الإسلام. قبة سلطانية بمشهدها الطبيعي اليوم مثال حيّ على عمارة الدولة في الإسلام، من حيث القدرة على البنيان وسرعة الزوال.
وإذا كانت قبة سلطانية مثالًا جليًّا لقدرة الدولة على البناء وسرعة زوالها، فإن العمارة العثمانية مثال آخر لعمارة الدولة، لكنه مثال مختلف هذه المرة. هذا ما ستكون لنا معه وقفة مفصَّلة في المقال القادم.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل