يُعتبر قوس النصر في باريس واحدا من المعالم السياحية الأشهر عالميا، حيث يتوسط ميدان شارل ديجول، الذي تلتقي عنده 12 طريقا أشهرها طريق الشانزليزيه. وقد أمر ببنائه نابليون بونابرت، ولكنه مات قبل الانتهاء منه في عام 1836م تخليدًا لانتصارات الجيوش الفرنسية، حيث نُقش على جدرانه الداخلية 660 اسما من أسماء القادة العسكريين، و96 من أسماء حروبهم وانتصاراتهم.
وعلى مدخل قوس النصر يوجد ضريح الجندي المجهول، الذي بُني عام 1920م تخليدا لذكرى الجنود الفرنسيين الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى ولم يتم التعرف عليهم لكثرتهم.
وفي الوطن العربي يوجد عدة أضرحة للجندي المجهول، أشهرها الموجود في القاهرة، والذي أمر الرئيس السادات ببنائه تكريما للجنود المجهولين الذين استشهدوا في حرب أكتوبر 1973م.
وعند الحديث عن الجندي المجهول، دعونا نعُد بالتاريخ إلى عام 21 للهجرة، حين أرسل حذيفة بن اليمان بعد معركة نهاوند مبعوثا لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب «رضي الله عنهم جميعًا»، يبشره بانتصار جيش المسلمين بقيادة النعمان بن مقرن المزني وفتح بلاد فارس. وتذكر الروايات أن السائب بن الأقرع مبعوث حذيفة، حين وصل لعمر بن الخطاب بشّره بانتصار المسلمين، ثم قال له: احتسب النعمان يا أمير المؤمنين، فاسترجع عمر ثم قال: ومن؟ فقال السائب: فلان وفلان وفلان.. حتى عدّ أناسًا كثيرين، ثم قال: «وآخرين من أفناد الناس لا تعرفهم يا أمير المؤمنين». فبكى عمر وقال: «وما ضرهم ألا يعرفهم عمر؟ إن الله يعرفهم».
كثير من المنجزات العظيمة اليوم يقف خلفها أبطال كُثر، قد نعرف منهم القليل فقط، ولكننا لا نعرف معظمهم.
خذ مثلًا المؤتمرات العالمية التي تُقام اليوم في العاصمة الرياض. حين نرى التنظيم المبهر والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والحضور اللافت والنجاحات غير المسبوقة، يتبادر السؤال: من يقف خلف تلك النجاحات؟ هل هو الوزير المعني فقط؟ أو عشرة أو عشرون من القيادات الميدانية؟ حتمًا لا، ولكنهم المئات من الجنود المجهولين خلف الكواليس ممن لا نعرفهم ولا يظهرون في الإعلام ولا يصعدون على المسرح لتلتقطهم الكاميرات.
إن الباحث عن الأضواء لا يستطيع العمل خلف الكواليس. وإن صاحب الأنا المتضخمة لا يمكنه العمل دون ضجيج أو لفت انتباه. هؤلاء لا يحبون العمل بعيدًا عن الأضواء ودوائر الاهتمام، ولا يهمهم نجاح العمل، بقدر ما يبحثون عن نجاحات ومكتسبات فردية تزيد قيمتهم السوقية، مما حدا بالبعض منهم أن يسرق جهد غيره وينسبه لنفسه.
إن الواثق من نفسه والمتصالح مع ذاته، يعرف قيمته جيدا بغض النظر عن الموقع الذي يعمل فيه أو المهمة التي كُلّف بها. يهمه نجاح العمل وإتقان الدور المنوط به ولو كان عند الناس مجهولا، ويعلم أن النجاحات الكبيرة تحتاج لتضافر الجهود، وأن القمة تتسع للجميع، فلا هو محتاج ليثبت نفسه لأحد ولا ليسابق أحدا. يدرك أن عمله خير من يتكلم عنه، وأن دوره سيحين في الوقت الذي كتبه الله، فلا يجري خلف الألقاب ولا يبحث عن الأضواء.