ارتبطت نشأة «الدرعية» بأجداد العائلة السعودية الأوائل، الذين يُذكر أنّهم من سكان بلدة الدرعية في شرق الجزيرة العربية؛ إذ كان جَدّ آل سعود، مانع المريدي وجماعته يقيمون في بلدة الدرعية، ودارت بينه وبين ابن عمه، ابن درع، الذي كان آنذاك أمير حجر، مكاتبات، فدعاه وشجعه على الانتقال إلى نجد، فقدم إليه سنة 850هـ، ومعه أولاده وبعض قرابته.
فوهبه ابن درع أراضي المليبيد وغصيبة شمال غرب حجر اليمامة على وادي حنيفة، فاستقر فيهما وأنشأ بيوتًا ومزارع، كانت هي نواة بلدة الدرعية، التي لم تلبث أن أصبحت من أهم الحواضر الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، وعاصمة للدولة السعودية الأولى.
وكانت منطقة نجد أكثر بقاع شبه الجزيرة العربية تضررًا من انتقال عاصمة الدولة، مما قاد إلى تدهور الأوضاع الفكرية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة لمدة طويلة من الزمن.
وكان وسط اليمامة هو مركز قبيلة بني حنيفة، من بني بكر بن وائل، حتى منتصف القرن الثالث الهجري، ولا شك في أن أعدادًا كبيرة من أفراد هذه القبيلة وأسرها، نزحت من هذه المنطقة إلى المناطق المجاورة للأسباب الآنفة الذكر، ويرجح أن المردة من بني حنيفة نزحوا من موطنهم الأصلي في ديار بني حنيفة، واستقروا في بلدة الدرعية قرب الأحساء، في موقع بالقرب من الدمام بالمنطقة الشرقية، في المملكة العربية السعودية.
ضغوط سياسية
مع عدم توافر تاريخ محدد لنزوح المردة، وعدم وجود إشارات صريحة لأسباب نزوحهم، فإن المعلوم أن بلاد اليمامة، تعرضت لضغوط سياسية واقتصادية منذ منتصف القرن الثالث الهجري، من الدولة الأخيضرية ومن القبائل المجاورة، ومن موجات الجفاف والقحط المتكررة التي شهدتها نجد، ولا يستبعد أن يكون نزوح المردة حدث في تلك الفترة لأحد تلك الأسباب أو كلها.
وكانت إمارة حجر والجزعة في منتصف القرن التاسع الهجري بيد ابن درع، الذي وجد في قدوم بني عمه الأدنين سندًا له، في ظل التنافس القائم على النفوذ بينه وبين آل يزيد إلى الشمال منه في أعالي وادي حنيفة، وجرت بينه وبين ابن عمه مانع بن ربيعة المريدي، في بلدة الدرعية، قرب القطيف، مراسلات ومكاتبات، حث فيها ابن دِرْع ابن عمه مانع على العودة إلى نجد، وقد وجد مانع بن ربيعة في دعوة ابن عمه فرصة للخلاص من الضغوط السياسية والاقتصادية التي تعرض لها، مما جعله يقرر العودة إلى موطن أسلافه في حوض وادي حنيفة.
المليبيد وغَصِيبَة
لا تحوي المصادر التاريخية إشارة واضحة إلى السبب الذي أدى إلى المكاتبات بين مانع وابن دِرْع، ولا إلى بدايتها، ولكن مانع انتقل وابنه ربيعة ومن معهما من أتباع إلى بلاد الثاني، الذي منحه من أملاكه أراضي المليبيد وغَصِيبَة ليكون حائلاً بينه وبين آل يزيد، إلى الشمال منه.
وكان موقع المُليْبِيد وغَصِيبَة، هو الحد الشمالي لمناطق نفوذ ابن درع، وإلى الشمال منه مباشرة مناطق خاضعة لنفوذ آل يزيد، يمتد من سمحة إلى الجبيلة، وإلى الشمال من الجبيلة لآل معمر، وكان حد آل معمر الذين أنشأ جدهم حسن بن طوق بلدة العيينة في الفترة نفسها، سنة 850هـ تقريبًا، وذلك بعد أن اشترى مكان البلدة من آل يزيد، كما يذكر ابن بشر، وهذا يؤيد الرأي القائل إن حوض وادي حنيفة، كان في منتصف القرن التاسع الهجري، يمر بحالة ازدهار وخصب ورخاء، حتى أصبح منطقة جذب سكاني.
اهتمام واسع
قال «جون فلبي» في كتابه «العربية السعودية» Saudi Arabia: «إن وادي حنيفة قد اجتذب اهتمامًا واسعًا في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي» التاسع الهجري، لسبب غير معروف، وأن آل يزيد من بني حنيفة كانوا المسيطرين، في ذلك الوقت، على حوض الوادي، من منابعه في الحيسية حتى حدود الخرج، وفي الوقت الذي تخلّوا فيه عن خُمسي أملاكهم في الوادي في حجر والجزعة وما حولهما لابن درع، باعوا موقع العيينة الحالية إلى حسن بن طوق، صاحب مَلْهَم، وجد آل معمر، أمراء العيينة.
تتشرف دار اليوم بدعوتكم لحضور ندوة يوم التأسيس
للتسجيل: https://t.co/3yH33TOKAD pic.twitter.com/gbJiOazRWI— صحيفة اليوم (@alyaum) February 19, 2023
تسمية الدرعية
بعد أن استقر مانع وابنه ربيعة، وأتباعهما في الموقع الجديد في أراضي المليبيد وغصيبة على ضفاف وادي حنيفة سنة 850هـ، بدأوا إحياءهما وعمارتهما، فأقاموا في الموقعَين بلدتين جديدتين على سفح الوادي.
وأطلق اسم الدرعية على البلدة التي أقيمت في أراضي المليبيد الواقعة على السفح الشرقي للوادي، قبالة مصب شعيب صفار في مجرى الوادي، وإلى الشمال منها تجاه أعلى الوادي بمسافة لا تتعدى 3 كيلومترات، أقيمت بلدة غصيبة على السفح الشرقي لوادي حنيفة، شمال ملتقى شعيب قليقل بالمجرى الرئيسي للوادي، واسم الدرعية غير مسبوق في حوض وادي حنيفة؛ إذ لا نجد في المصادر التاريخية أي إشارة لأي حاضرة في حوض الوادي بهذا الاسم، ويعلل كثير من المؤرخين سبب تسمية مانع وأتباعه لبلدتهم باسم الدرعية، بأنه إحياء لاسم بلدتهم القديمة التي قدموا منها، أو نسبة إلى الدروع.
أسماء كثيرة
تذكر المصادر التاريخية والمعاجم الجغرافية مواقع وبلدانًا كثيرة قامت على جانبي الوادي، آثار بعضها لا تزال في بطن الوادي، مثل تلك المعروفة بالعودة، والتي يعتقد أنها كانت مكان الدرعية الحالية، ويذهب محمد العيسى إلى الفصل بين اسم المدينة وموقعها، رغم أن اسم الدرعية جديد في حوض وادي حنيفة، إلا أن الموقع الذي قامت عليه كان حيًّا قبل ذلك بكثير؛ إذ كانت فيه بلدة غبراء التي سميت بعد ذلك العودة، ثم قامت عليها الدرعية.
ويؤيد العيسى رأيه بثلاثة شواهد، الأول، أن وادي العِرْضِ عرض بني حنيفة كان في الزمن القديم على درجة من الخصب، ووفرة المزروعات فيه، وكثرة السكان، وانتشار القرى من أعلاه إلى أسفله، على درجة عظيمة من كل ذلك، وبتوالي القحط والجفاف نضبت مياهه، وقلّ سكانه.
والشاهد الثاني أن موقع بلدة الدرعية في خير مكان من الوادي، سعة وخصبًا ومناسبة للاستيطان، فإن الوادي عندما يصل موقع الدرعية ينبسط، وتتقابل معه أودية من الغرب، ومن الشمال، وتتكون بينها مرتفعات صالحة للزراعة، ويشاهد المرء آثار الحدائق والمزارع الموجودة بكثرة بقرب الدرعية، وبين مواقع نخيلها في الوقت الحاضر.
فيما قال عن الشاهد الثالث: "لو رجعنا إلى كتب الجغرافيا القديمة، لوجدنا أسماءً كثيرةً من القرى الواقعة في ذلك الوادي، وقد دَرَسَتْ وجهلت، ونجد فيما نقرأ عديدًا من الأسماء فيما بين منفوحة والعمارية، ولا شك في أن موقع الدرعية كان في القديم موضعًا لإحدى تلك القرى".
ولو نظرنا إلى منطقة نجد ومدينة الدرعية تحديدًا، التي أسسها الأمير مانع المريدي في عام 850هـ - 1446م -الجد الثاني عشر للملك عبد العزيز- نلاحظ أنها مدينة متوسطة الحجم بمفهوم المدن في تلك الأيام، ولها مركز حضري يتألف من نسبة كبيرة من السكان، ومكتفية ذاتيًا من الناحية الاقتصادية لوقوعها على مفترق طرق تجارية، ولكونها منطقة زراعية نظرًا لوقوعها على وادي حنيفة، فتكثر فيها المزارع التي يفيض إنتاجها عن حاجة سكانها، فيقومون بتصديرها للمدن الأخرى في منطقة نجد مثل العيينة وحريملاء وغيرهما.
وتولى مانع المريدي وأبناؤه وأحفاده من بعد حكم الدرعية، توفير أسباب الحماية، وممارسة التجارة والسيطرة على الطرق التجارية لتأمين أسباب العيش لسكانها.
مقومات العاصمة
يوضح التأمل في الموقع الجغرافي لمدينة الدرعية أنه إستراتيجي لعاصمة دولة كبرى، ومن أبرز مقومات ذلك وقوعها على واحد من أهم الأودية في نجد وهو وادي حنيفة، عدا أنها تقع على أحد أهم الطرق التجارية القديمة، والذي تُعد الدرعية في قلبه، ويأتي من جنوب شبه الجزيرة العربية مرورًا بنجران، ثم يتجه شمالًا إلى اليمامة ثم الدرعية، حيث يتجه إلى الشمال نحو دومة الجندل، وإلى الشرق نحو العراق وإلى الغرب نحو الحجاز.
ويُعد هذا الطريق هو طريق الحاج القادم من فارس والعراق ووسط آسيا، الذين كانوا يواصلون سيرهم عبر الدرعية إلى مكة المكرمة، وازدادت أهمية هذا الطريق بعد قيام إمارة الدرعية على يد مانع المريدي، الذي سعى وأبناؤه وأحفاده إلى تأمينه وخدمته، وبتأسيس الإمام محمد بن سعود للدولة السعودية الأولى، أصبح هذا الطريق من أبرز الطرق التي تمر بها قوافل التجارة والحج؛ نتيجة لسياسة الإمام محمد بن سعود بتأمين هذا الطريق والارتباط بعلاقات مع القبائل، التي يمر من خلال مناطقها والاتفاق معها على ضبط الأمن، وتقديم الخدمة اللازمة للمستفيدين منه.