[email protected]
ربما نتذكر رواية الجذور للروائي الأمريكي أليكس هايلي الصادرة عام 1976، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي كان حديث الساعة وقت صدوره وما هو أصبح معروفا بالضرورة. غير أن مفهوم الجذور في مقالنا هذا على النقيض تماما من معناه في الرواية وفيلمها.
جذر الشيء أصله، والحديث عن الجذور يعني الحديث عن النبات وعن الأشجار تحديدا وخصوصا ما كبر منها. والجذور هي أسس النبات التي تربطه بالأرض ليصبح جزءا منها واستمرارا لها. الجذور في النبات كالقواعد في العمارة وما يتصل بها من أنظمة بناء. وإذا ما تم استعراض تاريخ العمارة الإسلامية على عجل، يمكن القول إنها عمارة جذور بامتياز. فأينما حل الإسلام نشأت هناك عمارة تبدو وكأنها قد ضربت بجذورها عميقا في مكانها الجديد وكأنها نبتة منه. وتاريخ العمارة الإسلامية يؤكد هذه الحقيقة بكل وضوح. ليس أدل على ذلك من البناء الرمز، البناء الخالد، البناء الأقدم في العمارة الإسلامية: قبة الصخرة. فبالرغم من تأثره بأشكال العمارة البيزنطية إلا أنه بناء إسلامي بامتياز في موضوعه، وفي رمزيته، وفي مقاييسه، وفي عناصره المعمارية، وزخارفه. إنه بناء إسلامي من بابه لمحرابه وكأنه قد سبق جذوره البيزنطية. هكذا كان حال أول معلم إسلامي تماما كما هو حال ما بني بعده من أقصى الجزر الهندوصينية وحتى سواحل الأطلسي. ينطبق هذا على السياقات الثلاثة التي تبنى العمارة الإسلامية في كنفها سواء أكانت حضارة أم دولة أم ثقافة.
إن تجذر الشيء يعني رسوخه وانتماءه طبيعيا للمكان. يترتب على ذلك استمرار لفكر الناس واحتياجاتهم وثقافتهم. انظر إلى المساجد في جزيرة سالاويزي في إندونيسيا. إنها أبنية إندونيسية كأنها تخرج من الأدغال قبل أن تكون مساجد. وانظر إلى مساجد الصين (قلب الصين) إنك لا تعرف إن كان البناء مسجدا أم قصرا أم معبدا صينيا. والحال ذاته ينطبق على المعالم الأثربة في أواسط آسيا من حدود منغوليا وإلى كل الدول العربية وصولا إلى بلاد الأندلس. الصورة تكرر نفسها باستمرار: عمارة متجذرة في مكانها تبدو وكأنها امتداد طبيعي له.
إن وصف العمارة (أي عمارة) بانتمائها لدين أو مذهب أو عرق أو أي تصنيف كان يعني سيادة ذلك المفهوم الذي تنسب له العمارة باعتباره صفة مهيمنة. هذا هو حال العمارة الإسلامية. إنها عمارة مجتمع وسلطة ودين. إنها استمرار للبناء الاجتماعي والفكري والثقافي لأصحابها. إنها عمارة جذور.
هذا ليس حال العمارة الغربية باختلاف مدارسها وحقبها. انظر إلى ما بناه الغرب في مواطنه الجديدة في أمريكا اللاتينية، وفي شرق آسيا، وفي شبه القارة الهندية وأفريقيا. إنك لترى الكاتدرائيات القوطية أو تلك التي تنتمي لعصر النهضة أو تلك التي تعود لليونان والرومان. هذه ليست عمائر جذور، إنها عمائر جلبت جلبا وتعرف أكاديميا بأنها عمائر استعمار (عمارة كولونيال).
وإذا سمح لنا هذا المفهوم (الجذور) بصور مجازية منطلقة منه، بإمكان الفرد تصور العمارة الإسلامية دوحة عملاقة ضاربة بجذورها في أعماق الجزيرة العربية ناشرة أغصانها في كافة أنحاء العالم الإسلامي وفي كل إقليم جغرافي، في كل دولة، أثمرت تلك الدوحة بما يتناسب مع هذه البقعة الجغرافية مع أرضها وأناسها تاريخا واحتياجات وثقافة. نعم هناك اختلافات بين العمائر الإسلامية في مختلف الأقاليم لكنها تستظل بفيء تلك الدوحة. تبقى تلك صورة مجازية ويبقى لكل فرد تصوره الذهني لفكرة الجذور باعتبارها خاصية فريدة تميز العمارة الإسلاميه عن مثيلاتها من العمارات وخصوصا العمارة الغربية باختلاف مراحلها.
قد لا تكون العمارة الإسلامية من حيث العدد والفخامة والتفاصيل وصلت إلى ما وصلت إليه العمارة الغربية، لكن تجذرها دليل حيويتها واستمراريتها. كل ما تنتظره منا الآن هو ريها بمختلف العلوم وفق طرق جديدة في التعليم والممارسة لكي تنبت من جديد.
أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل