@DrAlghamdiMH
* الماء العذب موطنه السماء. يظل متقلبًا في رحلة سفر بين السائل والبخار. السائل مرافق للبشر على الأرض. البخار سابح في فراغ كوكب الأرض. وعليه.. ما هو الماء؟ ما فضل هذا الماء؟ مَن يحملك على الحياة وإليها؟
أسئلة عابرة تأتي من تجليات التفكير في الوفاء والأمانة لسائل الحياة هذا. علاقتي به.. خليط من الأمانة والوفاء. علاقة بدأت في طفولتي.
* احتضن الماء قدميّ الحافيتَين في قريتي الريفية. داعب سطوح تعرجاتها الطرية. رقيق التعامل. متكيّف مع كل انحناء يواجهه. أمدّني بشعور سعادة عميقة. تفجّرت ملامحها نشوة. جعلتني أتابع سيري مراوحة في فلج الماء الضيق. سائل يتطاير يُمنةً ويُسرة. لا يشتكي عبثي. لا يُثير زوبعة غبار واحتجاج. يداعب قدميّ الصغيرتَين بصمت. كان هذا الدرس الأول في حب الريف. زرعه الماء. اكتشفتُ لاحقًا أن الماء أيضًا زرع في نفسي حب الحياة.
* كان الماء مرافقًا لطفرة طفولتي النافرة تمردًا، وشغفًا باستكشاف كل جديد. هل كان يغذي مشاعري بالدروس البيئية؟ هل كان ينقش في جدار الذاكرة البيئية مكانًا يدوم بريقه؟ هل كان يؤسّس ويعمل لبناء مشاعري البيئية للمستقبل؟
في وقته لم أكن أعلم أن الماء أيضًا في جسدي محمولًا على قدميّ. هل كان المشي في ماء الفلج نتيجة نشيد فرح لقاء الماء المحمول في الجسد، بجسم الماء في فلجه على الأرض؟ كأن الماء المرئي وغير المرئي يحتفلان. كأني أداة لـ(ماء) الجسم. حرّكني ليتحرّك. أنعشني لينتعش. أسعدني ليسعد. لم أكن أدرك أنه لقاء الحياة. تزاوج المشاعر والتقاؤها يصنعان استدامة الحياة وعطاءها.
* وجدتُ نفسي منجذبًا بقوة غامضة نحو الماء في فلجه. هل هي قوة الماء التي جاءت من خارج الكون؟ قوة زرعت على الأرض الحياة. نزل الماء من خارج الأرض سائلًا سحريًّا. فأصبح يغطي (71) بالمئة من كوكبنا. (97) بالمئة مياهًا مالحة. والباقي (3) بالمئة عبارة عن مياه عذبة، منها (2.05) مياه متجمدة. هل تعلمون أن الماء في الفلج الذي عرفت، كان من نسبة مجموع المياه الجوفية، والمياه السطحية من بحيرات وأنهار -على الأرض بكاملها- تحتل فقط (0.7) بالمئة؟ هذه هي نسبة كمية المياه العذبة المتاحة لنا كبشر. نشربه فنعيش. تشربه بقية الكائنات الحية فتعيش. كم نصيبنا في المملكة من هذه المياه العذبة؟ هل عرفتم الآن لماذا أصبح الماء قضيتي الكبرى في الحياة؟
* نعود لتربة الأرض التي خُلِقنا منها. يرافق الماء أجسادنا بكل احترام في ظلمة القبر. هل يواسي نسيج أجسادنا الميتة؟ في نهاية الأمر يتركنا ترابًا ويعود إلى موطنه السماء بخارًا لا نراه، حيث يعاود نزوله لتستمر الحياة وتدوم.
* الماء سائل يقع جسمه تحت تأثير وزنه، فيتحرك. إن لم يجد الطريق يظل متجمّعًا. إن توقف مجرى تغذيته يظل راكدًا. إن طال الركود تعكر. كنتيجة يموت كما يموت البشر. ينتقل إلى فراغ الأرض بخارًا وحيدًا، حيث قبره الفراغ وأيضًا ولادته من جديد.
* نحن نتكاثر بالتزاوج. الماء لا يتكاثر، ثابتًا الرقم في كمياته. يتبخر ويتنقل كبخار مع هبوب الهواء. نراه سُحبًا تحمل رسائل خير. فننتظر نزولها قطرات مطر جديد. يختار مكان هبوطه. وعندما نُحسِن استقباله نظفر بالكثير منه. هذا هو الماء في دورة حياة لا تتوقف. يحتاج إلى غطاء نباتي كثيف يُغري بهبوطه من السماء. لماذا نجعل المطر ينفر من أرضنا؟ كلما ذهبت إلى الريف الذي كنتُ أعرف، أراه جافًّا متصحرًا. تهدم فلج الماء. جفت الآبار. ماتت معظم أشجاره وغطاؤه النباتي.
* وبعد.. هل هناك تنمية ريفية بدون مياه جوفية؟ أصبحت أرض الريف غبارًا متطايرًا. وبيوتًا أسمنتية، ومشاريع تهلك الشجر وتطرد المطر.