الألفة التي ظننتُ يومًا ما أنها ستكون بجانبك حين يتعلق الأمر بالكتابة، وستكون أيضًا مأواك الأبدي حين تصبح حياتك على بُعد خطوة من الغرق، هي ألفة مخاتلة لا تتوقف عن السيلان، ولا عن الجري بقدمَين رياضيتَين على أرض غير مستوية، تملؤها الهضاب والوديان والوحوش المرعبة، قبل اليوم لم تكن الألفة عندك في مرمى النظر، ولم تكن تعني شيئًا آخر سوى ما تمرّست عليه حواسك واعتادتْ على ملامسته، وارتادتْ جسدك واستوطنت مخيّلتك، وكأنّ ما يراه الآخرون غرائبيًّا وعجائبيًّا عندك، سيكون غير مرئي، وتفاصيله الصغيرة لا تُرى بالعين المجردة، وما لا تراه أو تراه لا معنى له ما دام صمتك لا ينتبه ولا يفرّق بين الذين يطؤون أرضك بحوافر خيولهم الهاربة من التاريخ، وبين الذين يعبرونها بجناحي فراشة، والذين يتحدثون معها بهمس المحبين.
قبل اليوم لم تكن تكترث بالكلام المتكوم على الباب، ولا بالقليل من اللعب وقت الظهيرة مع غرباء لا يخطئون ضحكتك حين يحاولون اصطيادها بنكتة، هل كان على الذين صادقوك ومنحوا هدوءك الحركة أن يبادروا بالقول: ارفع يدك عن الباب، ولسانك عن الكلمة؟!
أليس صعبًا قبل اليوم أن تترك بيتك يمشي في الليل وحده بلا خرائط أو دليل، وأنت تنام مطمئن البال؟ أليس صعبًا أيضًا أن تسمع نداء استغاثاته كلما تاه في برّية أيامك، وأنت حتى لا تلوح بيديك، ولا ترمي حجرًا لا يُخطئ؟، لكنّ الذي حدث هو الآن يحدث، بما يتوافق والحالة التي أنت عليها حاليًّا، فبينما كنت تسمي الكتابة في عمقها ألفة وصلة وصل لا تنقطع عن حميمية العالم، وبين تدفق المياه الصافية على جسدك كلما تحممت أو رششته على رأسك، هناك ما يشبه الاحتفال الذي يصنع يومك بالغبطة والسرور؛ لأن كليهما لا يخذل أحدهما الآخر، الماء بصخبه على الجسد والكتابة بضجيجها على الروح، وكأن ثمة تواطؤًا بينهما لا ينفك تتغذى الكتابة عليه، مثلما الجسد على الماء، لم تكن الشكوك تراودك على الإطلاق، فيما إذا غابت الكتابة عن ملعبك قبيل بدء المباراة، وأنت في حالة انتظار وترقب، أنت تدرك في قرارة نفسك أنها ستأتي، أليست الألفة هي رباطها المقدس الذي صنعته أيامك معها؟
والألفة كما تعتقد لن تنقطع حبالها عنك، وجبالها لن تنهدّ، وطيورها الجارحة لن تهوي إلى القاع. لكن كما تظن في الكثير من هذه الحالات، أنها أخطأت الطريق إلى الملعب، أو أنها توقفت عند سوبرماركت لتتسوّق قليلًا قبل أن تأتي. أو أن حادثًا بالسيارة قد أخّرها قليلًا. لكنها حتما ستأتي أيها اللاعبون.
الكتابة أعرفها تقول للحكام: هي وليدة حياتي وتربيتي وليست لاعبًا محترفًا اشتريته بأموال طائلة، حتى أنني عندما حاولت تشبيهها باللاعب (رونالدو)؛ بسبب حماسها وموهبتها رفضت التشبيه، وقالت أنا حياتك نفسها لا تنفصل عنها، بينما التشبيه يفصل بين شيئَين متباعدَين، فهل بعد كل ذلك أفتح باب الشك على مصراعيه، وأدَع ما خفي من كلام الجهلاء يتمدد على مقاعد الجمهور وكراسي المعلّقين واللاعبين البدلاء.
انتظروا قليلًا.. ستأتي الكتابة وسنبدأ اللعب على مرأى ومسمَع العالم، لا تستعجلوا ولا تخافوا، سيأتي أطفال بعد قليل، كي يخبروكم بأنهم رأوا الكتابة تساعد في إنقاذ أطفال الزلازل وأطفال الحريق، وتضع الأحلام الجميلة في نومهم، إني متأكد من ذلك، مهما أصابتها لعنة التأخر أو الإبطاء، إلا أنها ستأتي محمّلة بالعطايا والكنوز، أليس من طبيعة الألفة بين شخصَين تبادل الهدايا ليس للذكرى فقط، إنما كعلامة يدرك فيها الواحد الآخر في عوالم أخرى غير هذا العالم.