اعترضني قط معروف في الحارة بصولاته وجولاته، وبوجهه المعفر الشاهد على انتصاراته، وقوة بأسه، لكن الغريب في مروره اليوم، أنه كان يعرج!
والمؤلم أن ذلك لبترٍ في قدمه اليمنى، فتألمت وتأملت حال هذا البطل المشهود له بالمرونة والفتوة والخفة واللياقة، وصفاء الذهن وسرعة الرد وقوة اليد.
ليأتيني السؤال المحير:
ألا يجدر به أن يوازن مشيته وقد بقيت له ثلاثة أطراف يسير عليها؟ في حين أن الإنسان على عظيم حجمه وارتفاعه وثقل وزنه ورأسه المحمل بهموم الدنيا، يكتفي بقدمين فقط؛ ليمشي باتزان!
وما إن عبر ذلك القط الشارع بوقار، ولم يكترث لاقترابي منه، ولم يتردد في عبوره، ولم ينشغل بإضاءة السيارة تجاهه، حتى وصل بهدوء وثقة إلى جانب الطريق الآخر، عند ذلك عدت إلى الوعي، لأجدني في الحقيقة قد ظلمته حينما ألزمته ما لا يلزمه، وحكمت عليه بالفشل رغم أنه في الحقيقة بطل، وأجحفته حينما قارنته بغيره، فهو على الرغم من البتر الذي أصابه، لا يزال صلدًا قويًا متعايشًا ومتكيفًا مع ذاته وقدراته، وواثقا من خطواته، وكأنه يؤكد على ما قيل: «الناس لا يستطيعون تدمير ما لا يعرفون، فأنت سيد ما تخفيه، وأسير ما تفشيه».
أجزم أن ذلك القط لا يعلم أني صنعت منه أسطورة في مخيلتي، بل ولا يهمه ذلك كذلك، لكن تلك اللحظات -بالنسبة لي- لا تنسى، وإن مرت سريعًا وكأنها لم تكن، إلا أنها بقيت خالدة في الذاكرة ومتجددة، لتأتي على إثرها لحظات قد تفوقها روعة وجمالا في حال تأملها، والتدبر بها، وكأنك بكل حدث من حولك تُخلق من جديد، وتلك هي الحياة، لا شيء فيها كامل إلا وثمة ما هو أكمل منه، ولا جميل إلا وفيها ما هو أجمل منه.
علمني ذلك القط بثقته وهدوئه ومضيه قدمًا رغم اقترابي منه، أن القوة كامنة، وأن المقارنة بالغير ظالمة، وأن الكل ميسر لما خلق له، وأن الالتفات لنظرات الناس أو لما يقولونه لن ينفعك بقدر ما يؤخرك عن بلوغ أهدافك ونجاحك، وأن رضاهم عنك ليس غاية لك أصلا، فضلا عن أنها لا ولن تدرك، وأن الحياة لا تقف عند المصاب، وأن الوصول يقتضي المضي بلا تردد وبهدوء وعزيمة وثقة بالذات وبالقدرة.
وكما قيل قديمًا: «ينام العصفور مطمئنا على الغصن ولا يخاف من تحطمه، لأن ثقته ليست في الغصن بل بجناحيه».