كلٌ منا لديه أسرارٌ يكره اطّلاع الآخرين عليها، ولو كانوا أقرب الناس إليه. ولدينا من الذنوب والعيوب والأخطاء ما نتضايق من معرفتهم بها.
لذلك حذّر رسولنا الكريم «صلى الله عليه وسلم» من تتبع عوراتِ الآخرين وزلاتهم؛ لما يترتبُ على ذلك من أثرٍ سيئ على الفرد والمجتمع، بل وتوعّد مَن يفعل ذلك بالفضيحة إنْ عاجلًا أو آجلًا، بقوله: «يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيّروهم، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإن مَن تتبع عورة أخيه المسلم تتبّع اللهُ عورتَه، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في جَوفِ رَحْلِه».
لقد كان التابعي الجليل الربيع بن خُثيم، إمامًا قدوةً عابدًا زاهدًا، حتى أن عبدالله بن مسعود «رضي الله عنه» قال له: «يا أبا يزيد لو رآكَ رسولُ اللهِ «صلى الله عليه وسلم» لأحبَّك، وما رأيتُك إلا ذكرتُ المُخْبِتين».
قال له طلابه يومًا: ما نراكَ تعيبُ أحدًا يا إمام! فردَّ عليهم «رحمه الله»: «لستُ عن نفسي راضيًا، فأتفرّغ لعيوبِ الناس»، وذلك بالرغم من رفيع منزلته وعلوّ كعبه بين أقرانه، وأنشد:
لنفسيَ أبكي.. لستُ أبكي لغيرها
لنفسيَ في نفسي عن الناسِ شاغلُ
وما أحوجنا اليوم لمنهج هذا الإمام، وهو الانشغال بالنفس عن الناس، نهذّبها ونرتقي بها في مدارج العلم والتزكية والنجاح والبناء والتميّز، منشغلين بتحقيق أهدافنا وتنمية مكتسباتنا ومنجزاتنا.
وقد وصف رسولنا الكريم «صلى الله عليه وسلم» أولئك الذين يستخدمون عدسات التكبير، يفتّشون بها عن أخطاء الآخرين مهما صغرت، ويغضّون الطرفَ عن أخطائهم مهما عظُمت، محذّرًا لهم ومنتقدًا لفعلهم: «يبصرُ أحدُكم القَذاةَ في عينِ أخيه، وينسى الجذعَ في عينه».
ومما يحزّ في النّفس أن ترى البعضَ، ممن ضَعُفت هِمَمُهم وضاقت نفوسُهم بنجاحاتِ غيرهم، يبحثون عن أخطاء أقرانهم، ويطيرون بها فرحًا بين زملائهم ورؤسائهم، وكأنهم قد حققوا انتصارًا يستحق التصفيق والإشادة. هؤلاء لا تهمّهم مصلحة الكيان، وإلا لحاولوا تصحيح الخطأ عند اكتشافه، ولكنهم يبحثون لأنفسهم عن نجاحٍ زائف حين عجزوا عن تحقيق مجدٍ حقيقي.
وقد تجد مَن لا هَمَّ له سوى التنبيش في سجلات الآخرين وماضيهم، يبحث عن الزلة والخطأ، حسدًا لهم، أو ظنًّا منه أن فضحهم والتشهير بهم سيجعله أفضل منهم، لكنه نسيَ أنَّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا، ولو أنه استثمر وقته وجهده فيما ينفعه لكان خيرًا له.
إنك لن تُعلي بُنيانك بهدم ما بناه الآخرون، ولن تنجح بسقوطهم، ولن تصبح مَلاكًا بشيطنتهم. وكل شعورٍ بالرضا عن الذات حين يُبنى على نقص الآخرين، هو شعور زائف لا يُعوّل عليه.
وفي زمنٍ كثُر فيه نشر الخصوصيات والفضائح على منصات التواصل الاجتماعي، نتذكر وعد رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: «ومَن ستر على مسلمٍ ستره الله في الدنيا والآخرة»، وقولَ أبي بكرٍ الصدّيق «رضي الله عنه»: «لو لم أجدْ للسارق والزاني وشاربِ الخمر إلا ثوبي لأحببتُ أنْ أستره به».