في رمضان تختلف المشاعر وتتأهب الجوارح ويسكننا شعور روحاني مغاير، والشعراء أكثر حساسية من سواهم، لذا فلهم في رمضان شأن آخر.
في التنقرير التالي نلتقي بعضهم، ونعرف منهم كيف يقضون الشهر الفضيل وما طقوسهم في أثنائه.
حضور كبير في وجدان الشاعر
الشاعر مرتضى الشهاب يقول : حينما يظللنا شهر رمضان الكريم بوارف عطفه، تضرب الروحانية خيامها في وجدان الناس، وكما هي عادة الشعراء، فإنهم ينفعلون مع ما يعيشونه من تجارب ومشاعر.
وتابع: ولأجواء شهر رمضان الكريم حضور كبير في وجدان الشاعر وبيئته، وهما كما أعتقد أهم العوامل في انبثاق النص، وقد لا يُفرَّغ انفعال الشاعر مع الشهر الكريم في قالب الشعر، وقد ينفعل شعريًا مع أشياء أخرى لا علاقة لها بالشهر الفضيل، كما ينفعل في أيامه العادية مع ضحايا الكوارث الطبيعية أو يوم الأم مثلاً، وقد يكون لشعره لون آخر يبدو أبعد ما يكون عن روح الشهر، كأنْ يُبدع نصًا غزليًا جريئًا ساعده الحرمان عليه.
الشاعر يختلي بقصيدته
أما الشاعرة آيات العبد الله فقالت: الشاعر كائن حسّاس ذو مشاعر مُتّقدة وحس عال، ولا شك أنّهُ يتأثّر بالجو والطابع العام من حوله، وهو بطبيعته قد يتماهى وينسجِم مع مايحيطُ به ويتأثر بذلك أيّما تأثر.
وأكمل: وبما أن لشهر رمضان هالته الروحانية الكبيرة فبطبيعة الحال سيدخل الشاعر زاهدًا إلى محرابهِ ليفيض مخزون مشاعره في فترة عبادية صادقة، لكن ذلك لا يجعلهُ ينسلخ كُليّاً عن الكتابة، ولا أن يهجر القصيدة، إذ إنه لايستطيع أن يُمسك عنها كإمساكِهِ عن الطعام والشراب.
وأوضحت: فتقلّبات الشعور والحالات العاطفية التي يمرُّ بها الشاعر خارجة عن التنبؤات والتوقعات، ولا ننسى أن للشاعر قُدرة عالية على الفصل ما بين اللحظة الآنية واللحظة المُتخيَّلة في ذهنه، وهذا التناقض أمر صحي وطبيعي، وبذلك ننتهي إلى أن الشاعر يمكنه القيام بعبادته كزاهد، لكنه سيختلي بقصيدته في نهاية المطاف.
الكتابة نهر يتدفق بعفويته
من جانبه قال الشاعر جاسم عساكر: الكتابة نهر يتدفق بعفويته وتلقائيته، فلا يخضع لأمر ولا يمتثل لنهي، ولذلك لا يوجد لدى الكاتب المولع بالكتابة نظام سيطرة على إحساسه يمنعه من الجريان مع معنى وقافية وموسيقى.
وتابع: وأعتقد أن شهر رمضان لا يحدّ الأفكار ولا يقصّ أجنحة الكلمات، بل قد تمدّ الطمأنينة أشرعتها في بحور لياليه، وتفرش السكينة ظلالها على أشجار الروح ساعة أسحاره، وتهب نسائم لطفه مما ينعش ورود الروحانية فتميل الأقلام للكتابة بأريحية وارتياح، وتجيء المعاني محملة بإبداع أكثر انسجامًا وألقًا وصدقًا.
عساكر أضاف أن شهر رمضان حالة إنسانية من شأنها أن تطرق أبواب الذاكرة لتتداعى معايشة نفحاته المُعينة على البوح شعرًا وأدبًا ودعاء، لأن الشهر لم يأت بعدّته وعتاده كي يحتلنا من الداخل، وإنما كي يطلق فينا قيمة إنسانية كبرى ويحررنا من قبضة الطين والحمأ المسنون الذي يشدنا إلى الأرض دائمًا، جاء لينثر أضواءه على الشرفات والنوافذ والعتبات والمارة، وينتشل أرواحنا من وحل الخمول الذهني ويسافر بنا متخفّفين من كل تلك الأعباء إلى حرم الحرف المحلق بفعل التأمل والطاعة، وما تبثه معانيه السامية والقيم العليا من إنسانية وحب وتسامح وصفح وصلة رحم، وما يبثه كل ذلك من طاقة لخلق صور إبداعية تجعل الشاعر يميل نحو القصيدة، ميل العاشق نحو الحبيبة، خاصة أن الكتابة لا تتعارض ومتطلبات الصوم ولا تهتك حرمته، إذا كانت مقنّنة وفق معايير أخلاقية بل على العكس فهي فحص دوري للروح ومواصلة لجريان النهر بصفاء ليجد فيها الإنسان ما لا يجده في الزبد الطاغي على أمواج بعض المسلسلات العقيمة والبرامج السطحية التي تأتي لتسرق الوقت خلسة.
القصيدة عصيّة في رمضان!
أما الشاعر زكي الجبران فقال إن رمضان ذاكرة البهجة العالقة دائمًا بجدار الروح، إذ "يجد كلّ واحد منّا نفسه في استدعاء حتمي لكل ما يحمله هذا الشهر من تفاصيل صغيرة لا تزال عالقة في الوجدان، رمضان الأطفال والأمهات والجيران والأصدقاء، رمضان الأزقّة والسهر والمسامرة حتى مطلع الفجر، نعم كل هذا قد يشكّل مكونات أساسية لانطلاق القصيدة، فالشاعر لا يحتاح سوى هذا الارتباط الوجداني بالأشياء كي يخلق منها شعرًا، ولكن الاشتغال الشعري في رأيي يحتاج إلى حالة من الصفاء الذهني قد لا يسمح بها ازدحام الارتباطات اليومية في هذا الشهر الكريم فهو مكثف جدًا بما يكفي لجعلنا في سباق دائم مع الوقت لتلبية حاجاتنا وحاجات الأسرة اليومية.
وأكمل: "بالنسبة لي القصيدة عصية في رمضان فهنيئًا لمن يجد الوقت والصفاء الذهني لخلوة شعرية أظنها ستكشف عن قصيدة مميزة".
فرصة العودة للذات من جديد
وقال الشاعر عباس العاشور إن شهر رمضان المبارك يشكِّل فرصة مناسبة للإنسان من أجل التخلص من بعض أعباء الحياة و تعبها والسكون في منطقة آمنة هادئة قريبًَا من السماء في بيوت الله، أو التدثر بتلاوة كتابه الكريم و إعادة النظر في فلسفته للحياة و نظرته للواقع الذي يعيشه.
وأكمل: "كما أنه فرصة أخرى للشعراء من أجل تنظيف أوراقهم من وسخ الكتابة وتغيير نظرة بعضهم من أنّ الفن للفن إلى أنّ الفنَّ رسالة للإنسان و خدمة للأرض التي ينتمي إليها و تعزيز هويته التي تحافظ على بقائه فاعلًا في حضارته الإنسانية وتاريخه وثقافته".
وتابع العاشور: "شهر رمضان فرصة العودة للذات من جديد، إذ يشكّل التوجّه الجمعي للناس إلى الصوم بيئة مناسبة للعودة للفطرة الصافية المليئة بالقيم والمبادئ السامية، فافرشوا أيها الشعراء ظلال معانيكم على هجير الورق بمجازات الرسائل السامية وتمرير قيم الحب والجمال.