ها هو رمضان يعود إلينا من جديد، ويُطل علينا بحلة وهيبة. هو شهر عشاقه كُثر، ينتظرونه في كل عام كانتظار المحب الولهان. من صفاته أن أيامه تمشي مسرعة. فنحن اليوم نستقبله، وغدا سنودعه، وستنقضي أوقاته وساعاته وأيامه كأسرع ما يكون.
رمضان كالحبيب تأنس بالجلوس إليه، وتستمتع بالحديث معه، وتسكن النفس لرؤيته. الوقت في حضرته قصير، والأجر في زمنه كبير. وأما أولئك الذين لا يعرفون قيمته ولا يفقهون قدره، فالوقت عليهم طويل، والزمن بالنسبة إليهم ثقيل! تلكم يا سادة يا كرام تدعى (نسبية الزمن) هو شعور نفسي ومعنوي، فاللقاء مع من نحب يمضي سريعا وخفيفا كلمح البصر.
ومن السلف من كان ينتظر رمضان الكريم قبل أن يأتي بمدة، فقد جاء في بعض الأثر أنهم كانوا يدعون الله قبل أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا انقضى ورحل دعوا الله أن يتقبله منهم. ومما ورد في ذلك قولهم: «اللهم سلمني لرمضان، وسلم رمضان لي، وتسلمه مني متقبلا». وهذا يدل على عظم هذا الشهر في قلوبهم ومنزلته الكبيرة، فإن من أحب شيئا تعلق به، وأكثر من ذكره، ويظل يرجو لقاءه.
رمضان شهر روحاني بأجوائه ليلا ونهارا. هو جاء ليوطن النفوس، ويهذبها من شوائب العام، ومن سطوة الماديات التي تراكمت عليها من كل حدب وصوب. ولعل المتأمل لزمننا المعاصر سيجد أن التقنية تحيط بنا من كل جانب، فلم تدع للنفس ولا للروح مجالا ولا فسحة للهدوء والصمت، والخلوة والتفكير. أضف إلى ذلك أن كل شيء من حولنا يركض في عجل. وتمعنوا معي أيضا أن الكثير منا قد لازم واستوطن الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات المتعددة بشكل مستمر ومتواصل، ولا يكاد ينفك عنها أو ينقطع منها، فكأن من يرانا يعتقد أننا وهذه الجوالات (الهواتف الذكية) جسدان لنفس واحدة!
والحقيقة أن مناط الصوم جاء لتهذيب النفوس لا الأبدان، و من أجل سمو الروح، لا من أجل تسمين الأجسام. ولذلك جاء في الحديث القدسي قال عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به»، فالصوم عمل خفي حتى ولو بدا للناس أنه عمل ظاهري! إذ يمكن للصائم أن يفطر أي وقت في خلوته بعيدا عن أعين الناس أو حتى حين مضمضته للوضوء فهم ينظرون ولا يشعرون!
ورمضان يأتي مرة واحدة في السنة لأنه موسم وفرصة يجدد فيها الإنسان عهوده مع النفس. وهي أيام فاضلة وفعالة لمن بحث عن الدافع والحافز والمُعين. فهذا الشهر هو طوق للنجاة، وكسر للجمود، وتغيير للعادات التي عجزنا عن استبدالها طوال السنة أو لم نستطع الخلاص منها. والتغيير يحتاج إلى أمرين وقت وإرادة. والصوم هو إرادة قبل كل شيء، ورمضان هو الوقت (30 يوما) لمن عزم وصدق، وتقدم ولم يتأخر، وشمّر ولم يتوان.
وانطلاقا مما سلف، أعود لأؤكد على أنه زمن فاضل وشهر مبارك لإصلاح النفوس، ولصقل الأرواح بلا منازع. وصدق الشيخ الأديب علي الطنطاوي -رحمه الله- حين قال: «إن كانت الحياة تنازعا على الحياة فهذا الشهر إدراك لسر الحياة، وإن كان العمر كله للجسم فهذا الشهر للروح».
ولكن المؤسف أن الكثير من الواقع مؤلم! حيث صرنا في رمضان عاما بعد عام نبتعد أكثر فأكثر عن الروحانيات إلى الماديات والمُلهيات، فازداد في حياتنا أكثر ما أسمّيه (الميمات الثلاث) المأكولات والمشروبات والمسلسلات! فأصبح الجسم ممتلئا، والعقل تائها، والروح خاوية!
abdullaghannam@