هنيئًا لكلِّ مَنْ أمَدَّ الله في عمره وبلَّغَه شهرَ الخيرِ والبركات، وموسِمَ الجوائزِ والأعطيات.
فقد روى الصحابي الجليل طلحة بن عبيدالله أن اثنين من الصحابة أسلما معًا، وكان أحدهما أشدُّ اجتهادًا من صاحبه في الطاعات، بل واستشهد في إحدى الغزوات. أما الآخر فعاش بعده عامًا ثم توفي. فرآهما في المنام، وهما يدخلان الجنة، وقد فُتِحَ بابُها للثاني منهما قبل الأول، فلما دخل، أُذِنَ لصاحبه الذي استشهد أن يدخل الجنة بعده!
فلما أصبح طلحة، صار يُحدّث الناسَ مستغربًا مما رأى في منامه. حتى بلغ ذلك رسولَ الله (صل الله عليه وسلم)، فقال: «من أيّ ذلك تعجبون؟» قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد اجتهادًا، ثم استشهد في سبيل الله، ودخل الآخرُ الجنةَ قبله. فقال: «أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ وأدرك رمضان فصامه؟ وصلى كذا وكذا سجدةً في السنة؟» قالوا: بلى. فقال رسول الله (صل الله عليه وسلم): «فلَمَا بينهما أبعدُ ما بين السماءِ والأرض».
وقد وردت أحاديث كثيرة تخبرنا عن الأجور العظيمة للصوم، منها الحديث آنف الذكر، وحديثٌ آخر يستوقفني كلما قرأته، وهو قول المصطفى (صل الله عليه وسلم): «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ، الحسنةُ بعشرِ أمثالها، إلى سَبعِمائةِ ضِعفٍ، قال الله تعالى: إلا الصَّومَ؛ فإنّه لي، وأنا أجزي به».
حين يتكفّل أحدُ الأثرياء بمكافأةٍ خاصّة لشخصٍ ما، فإن سقف توقعاتنا يرتفع كثيرًا بقدر معرفتنا بثروته وكرمه وسخائه. فما بالك بربِّ العالمين وَجُودِ أكرم الأكرمين، ورسولُ اللهِ (صل الله عليه وسلم) يقولُ عنه: «يَدُ اللهِ مَلأى، لا تغيضها نفقةٌ، سحَّاءُ (أي فيّاضة بالعطاء) الليلَ والنهار».
لذلك حين نسمع أو نقرأ أن بلوغ شهر رمضان نعمة عظيمة أكرمنا اللهُ بها، وتستحقُ منا الشُّكرَ والامتنان، فإنه ليس في ذلك مبالغة، بل هي حقيقة يجب أن نَعِيَها.
وحين نتكلم عن الشكرِ، لا يمكننا أن نتجاوز توجيهَ اللهِ لآلِ داوودَ بعد أن عدَّدَ نِعَمَه عليهم «اعْمَلوا آلَ دَاوُودَ شُكرًا، وقليلٌ من عباديَ الشَّكور». وكأن الله يريد أن يلفت انتباهنا إلى أن الشكرَ ليس مجرد مشاعرِ امتنانٍ تمتلئ بها نفوسُنا وكلماتِ ثناءٍ تلهجُ بها ألْسِنتُنا، ولكنه في أبلغِ صُورِه وأسمى مَراتبِه يكون بالعمل فيما يُرضي المتفَضِّلَ والمُنعِم «سبحانه».
ومن الشكر بالعملِ لنعمةِ إدراك رمضان، ما اختصره رسول الله (صل الله عليه وسلم) بقوله: «فأرُوا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، فإن الشقيَّ مَن حُرِمَ فيه رحمةَ اللهِ عزَّ وجَلَّ»، وترك البابَ مفتوحًا للتنافسِ في الخيرات.
فمَنْ ألْهَمَهُ اللهُ تزكيةَ نفسِه وتطهيرَ قلبِه فعليه بذلك، ومن وجد قلبه في قراءة القرآن والقيام فليغتنم وقته، ومن حُبّبَت له الصّدقات فليمدد يده، ومن أعانه الله على برّ الوالدين وصلة الأرحام فليبادر، ومن فتح الله له بابًا آخر من الطاعات فليدخله، ومن ضرب سهمًا في كل ذلك فهنيئًا له. المهم أنْ يرى اللهُ مِنك خيرًا.