[email protected]
على عكس معظم المباني الدينية (المعابد) في الديانات والثقافات الأخرى التي تتسم بتصورات ذهنية مسبقة وبمجموعة من الرموز والطقوس تكمن صعوبة تصميم المسجد في بساطته. على سبيل المثال فإن الكنيسة الغربية ذات شكل ومخطط وعناصر معروفة سلفا، يبقى الفارق بينها في تاريخ بنائها، يصاحبها ترانيم وطقوس ونظام جلوس وتعبد وجدت طريقها للعمارة. والمعابد الهندية تتشابه إلى حد كبير في كونها نحتت في الصخر وفق منظومة رمزية بالغة التعقيد لدرجة طغت معها تلك الرموز على العمارة ذاتها. أما المعابد الصينية (بوذية أم طاوية أم كونفوشيوسية) فهي تجسيد لرموز وعلامات فلكية اختفت معها الفوارق بين معبد وآخر.
هذه المعطيات المسبقة في شكل المعبد لا يوجد ما يماثلها في تصميم المساجد، فباستثناء توجيه المسجد للقبلة ووجود المنبر والمحراب في منتصفه، وهو ما لا يغير شيئا في عمارة المسجد، لا يوجد هناك أي معطى مسبق آخر سواء أكان مرتبطا بشكل المسجد، أم في طريقة الوصول إليه، أم في استخدامه، يقيد تصميم المسجد، ومن هنا تنوعت عمارته في التاريخ والجغرافيا وأصبح المسجد عنوانا لمنطقته التي بني فيها.
كان ذلك بالأمس أما اليوم فقد تغير ذلك كلية. إذ يبدو أن هذه البساطة ذاتها ربما كانت السبب في افتقار مساجد اليوم لهوياتها التاريخية والجغرافية في سياقاتها التي بنيت فيها، إضافة طبعا إلى اختلاف مواد البناء التي تم الحديث عنها في المقال السابق.
هناك معطيات جديدة نسبيا أصبحت من المسلمات في تصميم المساجد. ويأتي حجم المسجد في مقدمتها. فباستثناء صلاة الجمعة تعاني معظم المساجد من هدر في المساحات والطاقة اللازمة لتشغيلها وتكييفها وهو أمر معروف بالضرورة. وبالرغم من وجود تصنيفات قياسية للمساجد حجما واستيعابا لأعداد المصلين إلا أن ترجمة هذه القياسات على أرض الواقع ما زالت مطلبا ملحا.
هناك عنصران رئيسيان أصبحا يعرفان عمارة المساجد في المملكة اليوم. العنصر الأول هو غلاف المسجد: جداره الخارجي. جدار المسجد اليوم عبارة عن غلاف من الخرسانة يحيط بالمسجد من كل جانب ويمكن رؤيته من أي موضع داخل المسجد. هذه الأغلفة جدران صماء جرداء تعكس أصوات المكبرات أكثر من كونها تعطي انطباعا بكونها أغلفة مبان ذات أهمية خاصة. انظر فقط إلى مساجد الأمس ترى الفرق واضحا بين الحالتين.
العنصر الآخر هو السقف. فقد تحولت أسقف المساجد اليوم إلى أسقف أفقية بقبة في الوسط تستند على أربع دعامات أو أعمدة تبعا لحجم القبة. هذا هو النمط الغالب في عمارة المساجد في المملكة اليوم. السقف الأفقي متحدر من السقيفة، أما القبة فهي متحدرة من العمارة البيزنطية أو الفارسية أو العثمانية مؤخرا. وقد مكنت الخرسانة من تغطية مساحات شاسعة من الفراغ بأقل عدد ممكن من الأعمدة تحول معها المسجد إلى مجرد فراغ كبير يشعر الفرد فيه بالضياع بدلا من الانتماء.
تاريخيا كان جدار المسجد وقبته أو قبابه وأعمدته وعقوده وأقواسه وسائر عناصره نتاج تفاعل عضوي بين مواد بناء المسجد وبين الفراغ الناتج عنها. هكذا كون المسجد هويته المعمارية وقد كان لعناصره تلك معنى ووظيفة. كانت القبة عنصرا إنشائيا بالدرجة الأولى، أصبحت بمرور الوقت مرتبطة ذهنيا بالمسجد خاصة وبالمباني ذات الاستخدام الديني كالمدارس والأضرحة وليس القصور، وبمرور الزمن أصبحت القبة العنصر الذي لا يمكن لأي مسجد الاستغناء عنه (وهنا أتذكر مقولة أحد أساتذة العمارة قبل ما يقارب 35 عاما عندما أبدى اندهاشه واستغرابه لرؤية مسجد في الهند بلا قبة). الفراغ ثم الفراغ ثم الفراغ وطريقة تعريفه جدارا وسقفا وإضاءته طبيعيا يجب أن يكون الشغل الشاغل لأي معماري عند تصميمه للمسجد.
لغير ذوي الاختصاص فإن تصميم المسجد أمر في غاية البساطة وذلك أمر مشروع كما ورد في الحديث الشريف «وضعت لي الأرض مسجدا وطهورا». أما بالنسبة للمعماري الحصيف ذي الإحساس المرهف فإن المسجد هو البناء الأصعب تصميما على الإطلاق.
أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل