[email protected]
تتكون الأرض من طبقات بدءا من قشرتها الخارجية فوشاحها فلبها الخارجي فالداخلي وصولا إلى نواتها المنصهرة، وكذلك الغلاف الجوي الذي يتكون من طبقات تسمى التروبوسفير، فالستراتوسفير، فالميزو سفير.. إلخ. وانظر إلى الأشجار تجدها مبنية من طبقات بدءا بلحاء الشجرة وصولا إلى جوفها. وكذلك الإنسان ببشرته فقشرته فلحمه فعظمه وأنسجته وصولا إلى أوردته وشرايينه وخلايا جسمه، وقس على ذلك الكثير من الظواهر الحيوية والثقافية أيضا تجد الطبقات مفهوما سائدا في الطبيعة.
والعمارة أيضا في كل زمان ومكان مكونة من طبقات من كتل وفراغات، من طبقات موجبة وأخرى سالبة. انظر إلى مخططات مساجد الأمس ترى طبقات مترادفة من كتلة المسجد بدءا من بوابته، مرورا بأروقة صحنه، فبوابة قاعة صلاته، مرورا بدعاماته، أو أعمدته الحاملة لسقفه، وقبته، أو قبابه، وصولا إلى منبره ومحرابه. كانت هذه المفردات تشكل الغلاف الحاوي (الجدار) الذي يعزل المسجد عن جواره. كان هذا الغلاف سميكا بما فيه الكفاية لكي يعطي إحساسا بالكتلة وبالانعزال عن الخارج، وهي مهمة أساسية لإضفاء أجواء داخلية تنقل المصلين من عالم دنيوي إلى آخر سماوي. هكذا كانت المساجد في تناغم واستمرار مع الطبيعة ومع تصور الإنسان لها وعيشه فيها واستخدامه لها.
هذا عن الكتلة والحال ذاته ينطبق على الفراغ. إذ أن هذه الكتل باختلاف مسمياتها تعرف طبقات متنوعة من الفراغ يشعر معها المصلي بحميمية وانتماء لفراغ المسجد أيا كان موضعه من باب المسجد لمحرابه. والحال ذاته ينطبق أيضا على ما يراه المرء من زخارف وآيات قرآنية تزدان بها مساجد الأمس. هكذا كانت المساجد طبقات مترادفة ومتلاصقة من مفردات معمارية جعلت من المساجد أماكن مميزة للعبادة.
كان هذا بالأمس أما اليوم فإن كل ذلك قد اختفى. فقد تم استخدام الخرسانة المسلحة في جانب واحد فقط وهو بناء أسقف مستوية بمساحات شاسعة بأقل عدد ممكن من الأعمدة، وهو ما نتج عنه تجريد المساجد من أهم مكوناتها. هكذا حدث التحول الكبير في عمارة المساجد اليوم التي أصبحت بحورا عريضة من الأسقف تعرف فراغا واحدا كليا. إن الفراغ الكلي الواحد يقزم الإنسان ويشعره بالضياع ويفقد المسجد الإحساس بالمقياس الإنساني الذي ميز عمارة المساجد عبر تاريخها. حميمية الفراغ وإنسانية المقياس شرطان أساسيان للتعلق (attachment) بالمكان وهو ما تفتقده مساجد اليوم كلية. معماريا، انتقل المسجد من كونه بيت عبادة إلى نوع من المباني يندرج معها في فئة الصالات الرياضية أو المخازن أو أي بناء كان ذا بحر عريض وهو ما أفقده الكثير من السمات التي يجب توافرها في المباني الدينية. الخرسانة المسلحة مادة جبارة لبناء المسجد كتلا وفراغات بطبقات، بأي شكل كان، غير أنها استخدمت بطريقة بعيدة كلية عن الطريقة التي كان من المفترض اتباعها.
التراكمية (استمرار البناء في التوسع عبر الزمن) خاصية ملازمة للعمارة الإسلامية وبالإمكان إعادة توظيفها بطرق مبتكرة للتغلب على معضلة الفراغ الكلي الموحد وفقدان الإحساس بالمقياس الإنساني وحميمية الفراغ. بالإمكان على سبيل المثال استخدام عناصر الإضاءة الاصطناعية في تعريف فراغات أصغر داخل الفراغ الكلي الواحد. فنظرا لعلو أسقف بعض المساجد قد تكون عناصر الإضاءة الاصطناعية المتدلية من سقف المسجد وفق نظام هندسي حلا لذلك. هكذا كان الحال في عدد من المساجد التاريخية وربما كان الجامع الأزهر أوضح مثال على ذلك. بالإمكان أيضا استخدام العناصر الإنشائية (الجسور والعوارض) لتقسيم الفراغ. وتبقى جدران المساجد بحاجة هي الأخرى إلى تجزئتها إلى طبقات بصرية. وهنا يأتي دور الخط في تجميل المساجد بآيات من القرآن الكريم فالمساجد أولى من غيرها في توظيف الخط العربي.
كان مفهوم الطبقات أحد أهم المبادئ الخمسة التي يمكن من خلالها قراءة أشكال العمارة الإسلامية في مؤلفنا «مبادئ العمارة الإسلامية وتحولاتها المعاصرة»، وتؤكد التجربة العملية لمساجد اليوم الحاجة الماسة لإعادة تعريفه وتوظيفه بطريقة خلاقة في مساجد اليوم.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل