لن يعود أي شيء كما كان قبل الجائحة، كل شيء تغير ودخلنا في مرحلة مختلفة تماما، وحتى الأحداث الجيوسياسية بدت تلوح متغيرات لها ما كانت متاحة في البروتوكول الدولي من قبل، ولكن الغريب أن الجماهير في العالم لم تعد تندهش لهذا التغيير، ولا حتى للأحداث الكبيرة بل صارت من المسلمات. وحتى أن هذه المقدمة باتت تتكرر بعد أزمة انتشار فيروس كورونا وكأنه تأكيد على حقيقة أن الاختلاف العميق في كل شيء جاء سريعا وغير مفهوم.
ولكن أهم الأمور المتغيرة ليست على المستوى المادي بل هي على المستوى النفسي للأفراد، حتى أن هناك قيما كبيرة وراسخة لدى الأفراد والمجتمعات كلها تم كسرها وتغير الولاء لها وبالتالي تغير الإيمان بها، أهمها وأبرزها هو الولاء الوظيفي، هذا الحافز الذي كان مربوطا بحياة الفرد ربطا تاما لدرجة قادرة على تحمل الفرد لجميع أنواع الضغوطات وبيئات العمل الطاردة والاحتراق النفسي المهني المهين، ليبقي على ربطه الوظيفي كوسادة أمان تقيه من مخاوف المجهول، كان الضعف الذي يولد له أهمية الاستمرار أو كما أطلقت عليه منظمة العمل الدولية اسم «عبودية الديون» لاضطرارية الأفراد للعمل بقصد تسديد ديونهم والتزاماتهم المالية.
اختلفت هذه القيمة الوظيفية اليوم، وصار الاحتراق الوظيفي بأسبابه المتعددة محرضا للتمرد و«الخروج الكبير» كما يحلو لأول من تنبأ به، بتسميته بهذا الاسم وهو أنتوني كلوتز أستاذ السلوك التنظيمي، الذي تنبأ بتكاثر الخارجين من سوق العمل بعد الجائحة، وبالفعل الأعداد آخذة في الازدياد، فوفقا لتقرير للبي بي سي «لماذا لا تتوقف استقالات العمال» فإن هذا الأمر مستمر حتى بعد الجائحة وبأعداد كبيرة، حتى تحولت لظاهرة في السوق الأمريكي، وبحسب الإحصائيات فإن معدل الاستقالات منذ العام 2020 إلى اليوم في تصاعد، وهناك تخوف كبير لدى أصحاب الأعمال يدفعهم لتغيير نمط الدوام الوظيفي بحسب المزاج السائد للإبقاء على القوة العاملة لديهم بعد اندفاع العديد من الموظفين فيما يسمى «الخروج العظيم» أو «الاستقالات الكبرى» الذي تحول لنظرية أمريكية لوصف سوق العمل بعد جائحة كورونا، ويعد سوق العمل الأمريكي أكبر المتضررين من هذا التمرد الذي صار عدوى تشتكي منه أسواق العمل في العالم، فبحسب مكتب إحصاء العمل الأمريكي (BLS) قد استقال حوالي 50.5 مليون شخص من وظائفهم في عام 2022، متجاوزين الرقم القياسي السابق المسجل في عام 2021 والذي وصل إلى 47.8 مليون شخص. وقد سجل استقالة 4 ملايين شخص سجلت في فبراير الماضي. وبهذا المعدل (4 ملايين شخص) يستقيلون من وظائفهم كل شهر بشكل عام طوال 2021، وبقيت 7 ملايين وظيفة شاغرة في الولايات المتحدة بعدها، ارتفعت في 2022 لتصل إلى 11.26 مليون وظيفة شاغرة.
كما أظهر استطلاع أجرته شركة برايس ووترهاوس كوبرز لأكثر من 52 ألف عامل في 44 دولة تطلعهم لترك وظائفهم في العام المقبل. كما تظهر دراسات أخرى أرقاما أكبر، مثل البيانات من كونفرنس بورد، وفي استطلاع منفصل شمل ألف عامل بريطاني، قال ثلثهم تقريبا إنهم يخططون للاستقالة قريبا.
كذلك سوق العمل لدينا ليست مستثناة عما يجري عالميا، فهناك المستقيلون وهناك المتقاعدون الذين زادت أعدادهم خلال هذه الفترة مستغلين قانون التقاعد المبكر في دول الخليج والذي حمس العديد من الشباب لاختيار هذا الوقت للتقاعد المبكر، وبات يشكل موجة وظاهرة، ولكن الأسباب الحقيقة له هي ذاتها للتمرد على «الاحتراق الوظيفي».
@hana_maki00