MohammedAlHerz3@
لا أجد توصيفا أكثر واقعية ولا أكثر تعبيرا عن تلـك الحالـة الـتي كنت فيها منغمسًا في عالم الكتابة في فترة بداية التسعينيات، هي تلـك الحالـة الـتي تشبه رجلا مزارعا حدود عالمه هو حدود حقله الـذي يزرع فيه احتياجاته اليومية من خضراوات وفواكه، غير ذلـك لا يسعى أن يعرف أو يهتم خارج حدود هذا الحقل، وليس معنى ذلـك أنه لا تربطه بالخارج عوالق أو علاقات من هـنا وهناك، وإنما لأن هـذه الـروابط أقل ضغطا وأقل تحكما به إذا ما تعلق الأمر بروابطه التي تتصل بعالمه الكتابي، وكأن الفصل بينهما لا تظهر - أولا - مؤثراته إلا في الحالات النفسية والروحية والإدراكية التي تشكل رافعة لحظة الـكتابة، وثانيا تتجلى في البحث عن شكل ومضمون يلبي ويستجيب بما يتوافق وهذه الحالات كما المزارع الـذي يبحث عن مساحة في حقله لم يحرثها مسبقا بفأسه أو جرافته، هكذا كانت تلك الفترة كما أراها الآن، وقد تنسحب على غيري من جيلي الـذي بدأ يكتب متزامنا مع تلـك الـفترة وبنفس الـقناعة تحديدا، كنت لحظتها أدرك تمامًا أن ما نغامر بكتابته من إبداع تحت مسمى قصيدة النثر ليست مغامرة فحسب، إنما هي مخاطرة من النوع الذي لا تحمد عقباه، لأنك ستضع قدميك في طريق معزول، لا معالم واضحة له، بالنسبة للمحيط الذي تعيش فيه، وتتعمق الـعزلـة إذا ما أدركت أيضًا أنه طريق يخلو منه البشر تماما في عيون هؤلاء، لذلك لا تراهن كثيرا علـى ما يمكن أن يقدمه الآخرون علـى ما تحتاجه من دعم أو تحفيز، بالخصوص وأنت تخطو الخطوات الأولـى في عالمك الـكتابي، ما تملـكه وتحت تصرّف يديك هما أمران فقط، قوة الإرادة في تحقيق الـذات، والإصرار الـدائم علـى إثبات وجودها رغم الـعقبات والـعوائق، والأمر الآخر هو الـهامش الـذي يتاح لـك فيه اللعب دون مسؤولية اجتماعية أو ثقافية أو تقاليد كتابية تحد من قوانينك الخاصة التي تمارس من خلالـها الـكتابة الإبداعية، وهذا ليس معناه التخلي المطلق عن فكرة الروابط التي تجمع بين المسؤولية من جهة وممارسة الكتابة من جهة أخرى، لكن الحديث عن فكرة هذه الروابط له موضع آخر من الكلام، ليس هنا محله، ما قصدته هو أنك وحدك من يضع قوانين الـكتابة الـتي تلزمك ولا تلـزم غيرك، هذه الـقوانين قد نطلـق علـيها تارة الأسلـوب، وقد نطلـق علـيها تارة أخرى اللغة الجمالية أو شيئا آخر كالشخصية العامة للكاتب. إذن هي جميع ما سبق لكنها في نفس الوقت شيء آخر يتجاوز ما قلـناه، يمكن تسميته مجازا لعبة تقطير العالم في فجوات اللغة، وضع كهذا تمارس فيه الـكتابة علـى هـامش الحياة الـثقافية الـتي اعتاد الـناس فيها الاحتفاء بالمتن ومبدعيه الكثيرين، وتمارس فيه الكتابة أيضا بوصفها لعبة تصنع مستقبلها بقوانينها الخاصة، وضع كهذا كنا متأكدين من خلاله أن ما نكتبه هو المستقبل الـذي سيفتح أبوابه لـلـحداثة الشعرية القادمة، انقضت إلى الآن أكثر من ثلاثة عقود من الـزمن، ولـم يفتح المستقبل أبوابه، نسمع صريرها من بعيد، وعندما نلتفت، يتلاشى مثل الـسراب، والـغريب في الأمر، كان الهامش الـذي بدأنا في أوساطه الـكتابة في مشهدنا المحلـي هـو ما فرضته حينها الحياة الثقافية والأدبية الـتي لم تتخلـص من نظرتها الـتقلـيدية لـلأدب والكتابة في عمومها. وعلى الـرغم من ذلـك كنا متمسكين - بقوة المستقبل - بما نكتب، وعندما جاءت الحياة الـثقافية الجديدة وانفتح البلد على العالم كالسيل الـهادر في جميع مجالات الحياة الثقافية والأدبية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية، خفتت روح الـهامش الـتي كانت رافعة لنا في كتابة الـنصوص المتميزة، هل لأن ما صاحب الانفتاح الـثقافي هو الاحتفاء الكبير الـذي تتلقاه الـنصوص الـكلاسيكية، في لحظة كنا نظن أن الأجدى بالاحتفاء ولو بالنزر اليسير هـو ما نكتبه؛ لأنها بكل بساطة تمثل الـوجه الآخر للانفتاح الذي تعبره بلادنا؟!