نعم ولدت أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد مضي ست سنوات من عمره الشريف رأت آمنة أن من باب الوفاء لزوجها أن تذهب لزيارة قبره، فشدَّت الرحال وانطلقت باتجاه يثرب مصطحبةً ابنها (محمد) ومعهما سيدة تدعى أم أيمن.
وصلوا إلى قبر زوجها عبدالله فوقف ابنها الصغير ونظر إلى قبر أبيه بحزنٍ ممزوجٍ بتخيلاتٍ عن صورة وهيئة أبيه وعن مواقفه وعن مدى حاجته له لأنه ولد يتيماً وعاش طفولته بدون أبٍ، مكثوا قليلًا عند قبر عبدالله ثم همّوا بالرجوع لمكة بعد أن أدَّت واجب الزيارة.
قطعت آمنة مع ابنها وأم ايمن 150 كيلومتراً حتى وصلوا مكاناً اسمه (الأبواء)، فشعرت آمنة بتعبٍ شديدٍ، ولكنها صبرت وكانت متمسكةً بيد ابنها، ومضت تصارع آلامها ونظراتها لا تفارقه، فقد شعرت أن هذا المرض لا شفاء منه، وهي مجرد لحظات وستذهب روحها لخالقها، فأرادت إشباع نظرها من ابنها قبل الرحيل، استمر التعب يحاصرها وهي صامدة حتى تمكن منها فسقطت على الأرض، وإذا بأم أيمن ترفعها والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ينظر لها بحرقةٍ وخوفٍ والدموع تترقرق بعينيه البريئتين، تقول أم أيمن: فما أن رفعتها إلا وهي ترفع كفيها وتضم محمداً، وتقول له: «يا بني كل جديدٍ بالٍ، وكل آتٍ قريب، وكل حيٍ ميت».
فتموت آمنة والنبيُّ ينظر لها وقد أصبحت جثةً، بينما خوف الوحدة والحزن العظيم يجتاحانه من كل مكان، وقد لاحظت أم أيمن حالته وحزنه فأخذت تمسح على رأسه لتصبِّره فقالت له: عاوني يا محمد لنحفر قبر أمك، ويالهُ من موقفٍ مؤلمٍ لطفلٍ لم يتجاوز السابعة من عمره ينظر لقبر أبيه بالأمس، وفي اليوم التالي يحفر قبر أمه.
فأخذ نبينا صلى الله عليه وسلم يحفر معها وهو يبكي، تقول أم أيمن: «كنت أدير وجهه عن أمه من شدة البكاء، ثم دفناها في ذلك المكان، وتضيف أم أيمن: أمسكته من يده لنذهب وهو يبكي ويردد أمي... أمي... وكان ينظر وراءه وكأنه على أمل أن تلحق بهما، تقول أم أيمن فمشينا من الأبواء إلى أن وصلنا مكة، فتوجهت إلى بيت عبدالمطلب، فطرقت الباب فإذا عبدالمطلب يفتح لنا الباب، ثم قال للنبي: أين أمك، فبكى النبي وهو يردد ماتت أمي ماتت، فضمَّه عبد المطلب وقال له: أنت ابني.. أنت ابني!!».
ويدور الزمن وبعد سنين طويلة يُبَعث هادي البشرية برسالة التوحيد الخالدة وفي طريقه لفتح مكه تذكَّر تلك الأحداث، فقال لصحابته هذا قبر أمي فوقف صلى الله عليه وسلم على قبرها فبكى فقال الصحابة: والله ما بقي أحدٌ وقف معه إلا أبكاه، وذات مرة زار قبرها وكان معه ألفا فارس مقنع فقال لهم: «قفوا» أي انتظروا، يقول أحد الصحابة ما رأيت رسول الله أشد بكاءً من ذلك اليوم.
نعم إنها آمنة بنت وهب من أنجبت خير البشر، صلوات ربي عليه وآله وسلم.