(١) تمر هذه الأيام الذكرى الأولى على رحيل الشاعر علي الدميني، الرحيل المُرّ الذي جاء خلسة مثلما يجيء غريب إلى بيتك ويسرق منك أعزّ ما تملك، ثم يذهب خلسة أيضًا، وأنت في كلتا الحالتين تقف في ذهول الذي لا يصدّق ما يجري حوله.
هكذا كان معنى رحيله، وهكذا وقفنا أمامه، لا نقدّم خطوة ولا نؤخرها، وكأن الرحيل ذاته هو ما يعيق إدراكنا الواقعي، ويعيق استيعابنا لموت علي الدميني.
لذلك هذه الذكرى السنوية الأولى لا يمكنها أن تطوي تحت ذراعيها مثل حصير كل ما تساقط من استيعابنا لهذا الموت، وكل إدراكنا الواقعي له. وكأن الدهشة هي كل ما تبقى لنا من هذا الاستيعاب، كل ما جال في أذهاننا عن معنى أن يموت الشاعر.
(٢) يا له من غياب فادح حين نسمّيه غيابًا. لكنه ليس كذلك هو الاحتجاب والمراوغة؛ كي لا يظن الغياب أنه الموت نفسه، الوهم بينهما والالتباس هما المسافة التي تقطعها الذكرى بين جسد الشاعر وحياته، ولا أظن أن الشاعر علي الدميني استنفد هذه المسافة بمجرد عبوره إلى ذكراه الأولى، لقد كان صاحب بياض الأزمنة يهيئ عمره للعبور على حواف الكلمات حتى لا يقع في البياض الذي ينصب شباكه كلما احتشدت أيامه وتهيأت للتقدم صوب عالمه الداخلي.
إنه الشاعر الذي يعلم قبل غيره، أنه لا مفر له من العبور إلى الجهة الأخرى من العالم، لا مفر له من إكمال ما صدح به صوته من نشيد القرى، وهو بين طرقاتها، حتى وجدنا هذا النشيد في (رياح المواقع) يتمدد على تلك الطرقات، وكأنه يريد أن يصغي إلى ما تقوله الأرض من وصايا قبل أن تغيّر الكلمات بوصلتها لتتحرر من غربتها، وتطلق أجنحتها للريح.
(٣) وردة على القبر لا تكفي لمجيء الذكرى أيها الشاعر..
قد تأتي القصيدة متأخرة قليلًا، والضباب الكثيف يغشى عينيها فتضيع بين القبور. لكنها ستأتي أخيرًا؛ لأن غابة من الورود هي دليلها إلى قبرك بحاسة الشم، وما الوردة الوحيدة سوى مصيدة لمجيء الذكرى.
(٤) يلتفت الأصدقاء إلى غيابك من جهة القصيدة، ثم يلتفتون مرة أخرى إلى غيابك من جهة الأيام، ثم ينظرون إلى أعلى محدقين في الوقت وهو يمطر عليهم دقائق وساعات وكأنه يقول لهم: لماذا لم تغلقوا خلفكم ديوان (خرز الوقت)؟!
فالالتفات عندي لم يكن سوى الجاذبية التي تسللت منها إلى غيابه.
(٥) كان الشاب بقامته الممشوقة يلوّح لنا بيده وبالأخرى يحمل فانوسًا، ضوؤه يعمّ المكان، وكلما اقترب كان ثوبه الأبيض يلمع تحت شلال الضوء.
عندما سلّم: قال بسرعة: دعوني أفتح لكم باب المنزل. وحين تخطَّينا العتبة كانت المفاجأة: إنها رواية على هيئة منزل. عند خطواتنا الأولى لم ندرك هذا المأزق؛ لأننا لم نحتط بملابس مناسبة لأجواء الرواية، وعندما التفتنا إلى الشاب للاستفسار، رجع مسرعًا جهة الباب، وقال ألم تتعرفوا عليّ: أنا الذكرى الأولى للشاعر علي الدميني، وهذي روايته (الغيمة الرصاصية) ولا يحق لي تجاوز العتبة.
لكن سرعان ما تحوَّل المأزق إلى فُرجة ممتعة، فالغرف والممرات كانت تعبرها شخصيات متنوعة، وكل شخصية كانت تحمل خلف ظهرها مرآة كبيرة، ننظر عبرها إلى وجوهنا كلما أردنا أن نتأكد أننا أحياء.
(٦) بعد خمسين سنة، وقف على بابي رجل مسن، وهَمَّ بطرق الباب. لكنني سبقته، وفتحت له الباب، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة، قلت له: عرفتك، إنني أنتظرك بفارغ الصبر مثلما كنت أنتظرك في المرات السابقة. وقف حائرًا وكأنه لا يتذكر شيئًا من كِبر سِنّه، فقلت له: ألستِ أنتِ الذكرى الخمسين للشاعر علي الدميني؟! قالت: نعم، فقلتُ: هيا إذن إلى الاحتفال الذي يقام سنويًّا باسمه.