[email protected]
في القول المأثور: «البدايات مقدمة للنهايات والأخيرة نتيجة للأولى». يتبادر هذا القول إلى ذهن المرء عند دراسته للعمارة الصينية.
تدريس العمارة لدينا غربي المنشأ ولذلك فإن نظرتنا للعمارة أكاديميا ومعرفيا ومزاولة على أرض الواقع هي استمرار للعمارة الغربية، ولا ضير في ذلك. فقد فرضت الجغرافيا والتاريخ سننا كونية جعلت من الغرب ندا حضاريا لنا كعرب ومسلمين. وجزء كبير من تاريخنا هو نتيجة احتكاكنا بالغرب، سلما، أو حربا إلى اليوم. غير أننا لو يممنا وجوهنا شرقا هناك صوب الصين، فلربما اختلف التاريخ ومعه العمارة فهذه في الصين شيء مختلف تماما.
فقد درجت الأعراف والتقاليد الأكاديمية في العالم كله، وليس لدينا فقط، على تدريس العمارة باعتبارها أشكالا معمارية في ذاتها وكفى. غير أن هذا النهج لا يصلح البتة لدراسة العمارة الصينية لأسباب متعددة. السبب الأول والأهم هو أن العمارة كشكل ومنتج نهائي لدى الصينيين لا يتم بناؤها وإنتاجها بتلك الطرق المتبعة لدى الغرب. فقد استبدلت الكنائس الفارعة الطول في الغرب بقاعات أفقية للتأمل، تماما كما استبدلت سلطة الكنيسة التي فرضت أيديولوجيتها على البلاد والعباد بما يسمى في الثقافة الصينية «تفويض السماء» وهو مؤشر مرن مستمد من الشعب يسمح للرعية بتقويم أداء الأباطرة والحكم عليهم من خلال الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد من فترى لأخرى.
نتج عن ذلك أن أصبحت العمارة في الصين محصلة انسجام بين أسلوب الحياة مع الطبيعة والنظام الاجتماعي والسياسي على كل الأصعدة. والانسجام هنا مصطلح يحيل الفرد إلى الأقطاب الثلاثة التي شكلت العقل والفكر الصيني منذ القدم إلى اليوم وهي الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية، وفي القول المأثور عن الصينيين أنهم «حكموا البلاد بالكونفوشيوسية، وهذبوا العقل بالبوذية، وحافظوا على الصحة بالطاوية»، والصين تاريخا وحضارة وشعبا هي تجسيد حضاري لهذا الثالوث الذي جعل الصين ما هي عليه منذ القدم وإلى اليوم.
لعل أحد أبرز سمات التجانس في العمارة الصينية أو الانسجام لا فرق بينهما هو ارتباطها المباشر بالبيئة وهذا هو السبب الثاني. انظر فقط إلى القصور والمعابد والحدائق الصينية تجدها استمرارا مباشرا لما حولها.
والعمارة في أي مكان في العالم هي تحصيل حاصل لما بنيت به وهذا هو السبب الثالث. العمارة في الصين - في سوادها الأعظم - عمارة خشب. إنها حرفة نجارة. يطلق مفهوم البراعة (craftsmanship) على إتقان الصنعة المرتبطة بالحرف اليدوية وتأتي أعمال النجارة في مقدمتها. والبناء الصيني هو في نهاية المطاف براعة في النجارة. أما في عمائر الطوب المحروق والحجر فقد تم التعامل معها كما لو كانت قطعا من الخشب أو الحلي تحولت معها هذه العمارة إلى ما يشبه عملية الترصيع في الذهب والمجوهرات.
السبب الرابع أن العمارة الصينية (مثلها مثل العمارة الإسلامية) أفقية. إنها توازي الأفق. ولنا في مساجدها عبر شتى. وبالرغم من انتشار الباجودات (وهي أبراج دينية) إلا أن موضوع هذه الأبراج والسبب في بنائها وما ترمز إليه قائم كله على مبدأ التجانس، كما أنها إلا فيما ندر مصمتة في الداخل.
والعمارة هي في النهاية شكل من أشكال الفن بالضرورة سواء كانت عمارة حضارة أم دولة أم ثقافة، وهي في الصين كل هذه الحالات. انظر إلى خط أفق المدينة المحرمة وسط بكين وانظر إلى قاعة التجانس (لاحظ المصطلح) الأسمى في وسطها، وانظر إلى الخط الصيني تجده انعكاسا مباشرا لتلك. هذا الأخير (الخط) متحدر من فنون الرسم الصيني الذي هو أصلا تجسيد لمفهوم الانسجام. هكذا هي العمارة الصينية. إنها عود على بدء، وكل لا يتجزأ بين البيئة والإنسان.
وعلى غرار القول المأثور اطلبوا العلم ولو في الصين نقول ادرسوا العمارة ولو في الصين.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل