في إحدى المعارك، تمكّن أسامة بن زيد ورجلٌ من الأنصارِ من أحد المشركين ليقتلاه، فقال عندها: لا إله إلا الله، فأحجم الأنصاريُّ عنه، وقتله أسامة بن زيد. فبلغ ذلك رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، فغضب ونادى أسامة يسأله أقتله قبل أن ينطق الشهادة أم بعدها، فقال أسامة: إنما قالها خوفًا من الموت، فقال له رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: «أفلا شققت عن قلبه؟!».
هنا يضع لنا المصطفى «صلى الله عليه وسلم» قاعدة راسخة في التعامل مع الناس، بأن نأخذ بظاهر أفعالهم وأقوالهم، دون تأويلها بما يتوافق مع أهوائنا وظنوننا، وبذلك نغلق الباب أمام الشيطان ومحاولاته للتفريق بين الناس، وتقطيع أواصر المودة بينهم، وهدم العلاقات، وتفكيك المجتمعات.
حين يسيطر سوء الظن على الشخص فإنه يفسّر كل قول أو فعل بطريقةٍ تتوافق مع ظنونه، حتى لو كانت «شاطحة» في تفسيرها وتأويلها، فسوء الظن طريق مُمَهّد لسوء الفهم. وكما قيل: «المتلصّصون علينا من ثقب سوء الظن، لن يروا إلا أسوأ ما فينا».
وقد خلّد الله ذِكرَ نملةٍ في القرآن الكريم، بعملها العظيم، حين أحسنت الظنَّ بنبي الله سليمان «عليه السلام»، وقالت لقومها: «ادخلوا مساكنكم لا يحْطِمَنَّكم سليمانُ وجنودُه وهم لا يشعرون».
بالرغم من أنها تستطيع تحذير قومها من جيش سليمان دون التماس العذر لهم، إلا أنها اختارت أن تُحسِن الظنَّ وتلتمس العذر، بل وتصدح به في قومها، لتقطع الطريق على أي محاولة للانتقاص من سليمان وجنوده.
إنه خُلُق الرَّاقين، أصحاب القلوب النقيّة، الذين يلتمسون العذر ما استطاعوا إليه سبيلًا.
وما أجمل قول عمر بن الخطاب في هذا الباب: «لا تظنَّنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك شرًّا، وأنت تجد لها في الخير مَخرجًا». وقول الآخر: «التمس لأخيك العذرَ بجَهْدِك، فإنْ لم تجد له عذرًا، فقُلْ لعلَّ لأخي عذرًا لا أعلمه».
إنَّ مَن يُحسن الظنَّ بالآخرين يرتاح من هَمّ الظنون، ويرتاح الناسُ في التعامل معه، فلا يحملون همَّ التبرير والتفسير، ويكونون على سجيَّتهم معه ويتبسَّطون بالقول والفعل.
وفي الجانب المقابل نحتاج أحيانًا لتوضيح مواقفنا وأفعالنا وأقوالنا، لا سيما إذا كانت موضع شبهة أو تحتمل أكثر من تفسير، خصوصًا لمن نحب ولمَن لا نرغب بخسارتهم، وذلك من خلال التواصل بوضوح وشفافية. مقتدين برسولنا «صلى الله عليه وسلم»، حين قال: «على رسلكما، إنها صفية» في القصة المشهورة.
ولكننا أيضًا لسنا مطالبين بتوضيح مواقفنا وتبرير تصرّفاتنا لكل شخصٍ أساء الظن فينا، وتكلّم عنا بسوء. فنحن مسؤولون عن كلامنا وتصرّفاتنا، لا عن ظنّه السقيم وفهمه العقيم.
وسلامٌ على الشاعر سعد علوش، حين قال:
«خذ العفو وترفّع عن الناس لو يخْطون
ومن ظنّ فيك بسوء.. خلّه على ظنّه
ترى سيئي الظنّ لنفسهم يسيئون
يربّي فِـ قلبه مِخلبْ.. وينجرح منّه»
وتذكروا قول عمر بن العزيز: «أعقلُ النَّاسِ.. أعْذَرُهم لهُم».
@MetebQ