بوسعنا وبدرجة عالية من التأكيد أن نعتبر صفاء الذهن وراحة البال أمرَين متلازمَين، حيث توفر راحة البال شروط صفاء الذهن بقدر ما يوفّر صفاء الذهن شروط راحة البال، وهما ركيزتان ضروريتان لأجل التفكير الجيد والحياة الجيدة، فالتفكير الجيد يعني حياةً جيدةً، والحياة الجيدة تعني تفكيرًا جيدًا. وهذا يدركه كل الناس بالخبرة اليومية وبالحسِّ السّليم. مما يجعلنا حيارى في أولوية البدء بينهما، فهل ننطلق من العمل على تنمية التفكير، ثم تتحسن القدرة على إدارة الحياة كتحصيل حاصل، أم تنمية القدرة على إدارة الحياة فيغدو تحسّن قدرتنا على التفكير مجرد تفاصيل، وقد يفيدنا التذكّر بداية بوجود ثلاثة مستويات لا يجوز الخلط بينها، فهناك ما يمكننا وصفه بالحياة الجيّدة، والأمر الثاني النظرة الجيدة إلى الحياة، ثم يأتي ثالثا ما يسمى بالقدرة الجيّدة على الحياة. وبهذا يصبح الفرق واضحًا بين الجهد المطلوب إلى تحسين الحياة كالدخل الفردي والظروف البيئية من جهة أولى، والجهد الرامي إلى تحسين إدراكنا في الحياة كتطوير المفاهيم الأخلاقية والنظرة الجمالية، والجهد الرامي إلى تحسين القدرة على الحياة من جهة ثالثة، بشحذ الذكاء الروحي والحكمة أو ما يسمى أحيانًا الفلسفة العملية، لكن معظمنا ينصب اهتمامه على تحسين الحياة حصرًا، والذي نترجمه غالبًا بالمطالبة بحقوقنا والاحتجاج على غيرنا والمقارنة والحزن على أحوالنا، ونادرًا ما نولي الاهتمام إلى تحسين نظرتنا إلى الحياة، بل قد نقاوم الأمر بشدّة. أما مستوى تطوير القدرة على الحياة فمن الراجح أنها ضمن اللا مفكّر فيه؛ لأننا نفترض سلفًا وغرورًا بأن نظرتنا إلى الحياة لا بأس بها، وأن قدرتنا على استيعاب الحياة جيدة، وما يلزمنا استنكاره فقط هو سوء أحوال الحياة من حولنا، ولا يعني كلامنا أننا نُنكر من أهمية العمل على تحسين الحياة، لكننا نقصد أن تلك الرحلة تتطلب تراكمًا قد يستغرق سنوات.
فمن أين لنا بمثل ذلك النفس الطويل حين نكون فاقدين أصلًا للقدرة على الحياة؟ فالظن بأنه يمكن الاهتمام بتحسين ظروف الحياة على حساب إغفال تحسين نظرتنا إلى الحياة، أو مع إهمال قدرتنا على إدارة الحياة، خطأ قاتل في جدول الأوليات، وأحد مصادر الاضطراب الروحي الذي يهدّد السلام الداخلي للشخص، والسلم الأهلي للمجتمعات أيضًا. بسبب العلاقة المؤكدة بين الاثنين؛ لأن مَن يمتلك راحة النفس لا يزعج نفسه ولا غيره، فهو يتفهّم أن هناك من الأشياء ما هو في قدرتنا، ومنها ما ليس كذلك، فالأشياء التي في قدرتنا نحن أحرار فيها، والتي ليست كذلك عُرضة للمنع وأمرها موكول لغيرنا، وإذا أراد المرء أن يقلل من توتره فليحاول التفرقة بينهما وتخفيف الرغبة والانتظار من الخارج، فالجاهل كما يصفه الفلاسفة هو الذي لا يرتقب النفع ولا الضرر من نفسه، بل ينحو دومًا للنظر إلى الأشياء الخارجية، وحين نضع كل آمالنا على الأمور التي لا يمكننا التحكّم بها سنُصاب حتمًا بالعبودية النفسية أو الإحباط، فنغدو فاقدين للقدرة على الحياة. ورغم أن تحسين الحياة مطلب مشروع بلا شك، أو حلم جميل على أقل تقدير، لكن الأكثر أهمية هو القدرة على الحياة. والتي لا يجب أن يفقدها المرء، مهما كانت ظروفه المعيشية ومعاركه اليومية، فالرهان ليس على تغيير الأشياء، بل تعديل آرائنا حول الأشياء. حفاظًا على صحة الجسد والنفس والروح، وصحة الكينونة عمومًا، ففي واقع الحال، لا تسوء الأحوال، وإنما نظرتنا إلى الأحوال، ولا يوجد في الحياة ما هو سيّئ عدا أفكارنا حول الحياة. فهي الأشدّ تأثيرًا على سعادتنا نفسها، ونوع الحياة التي نحياها؛ لأنها سرعان ما ستصبح مشاعر قبل أن تصبح المشاعر تصرّفات في آخر المطاف.
@LamaAlghalayini