ما أن يأتي ذِكر نزار قباني في أي مناسبة، إلا وتثار حول تجربته الكثير من الأسئلة، وبما أننا في مئوية مولده فإن السؤال الذي تجابه به هل جعل نزار الشعر أكثر استسهالًا كما طرحه علي أحد الأصدقاء الصحفيين؟
لا أظن الأمر بهذه البساطة، فشخصية نزار الشعرية لا توحي بأنه يتقصد الاستسهال بوصفه أحد عناصر التجديد في شعره. لكنه في ذات الوقت كان محكوما بمرجعيات شعرية مؤثرة بداية عند فوزي معلوف وجبران خليل جبران وصولا إلى لبكي وانتهاء عند سعيد عقل وغيرهم، هذه الموجة من الشعراء كانت اللغة على أيديهم قد تخلصت من حياتها القاموسية، وأصبحت أكثر حيوية وقدرة على ارتياد مناطق تعبيرية جمالية غير مسبوقة، وبإيقاعات بسيطة وألفاظ سهلة التركيب.
يضاف إلى ذلك أن نزار وضع الشاعر في تصوراته، خصوصًا في بداياته، موضع الذي يحمل على عاتقه مهمة كبيرة ألا وهي تنوير الناس وإيقاظهم. وكانت الرافعة لهذا التصور نكسة ٤٨ في فلسطين، وما تلاها من نكسة ٦٧، هذان العاملان هما اللذان أوجدا المبرر النظري لفكرة أن نزار قرب الشعر للناس.
لكن الحقيقة أن شعرية نزار وشخصيته وهما لا ينفكان على الإطلاق، وهما من البساطة ما يجعل من شعره بسيطا سلسًا غير معقد وغير انفعالي بالمطلق، وهذا ما ترافق أيضًا مع سليقة الجماهير وتلقيهم لشعره.
وقد يحلو للكثير أن يضع نزار في خانة المقارنة كما هو ديدن الكثير من الدارسين للشعراء العرب.
لكن المقارنة عادة ما تكون مشروطة وفق عناصر محددة في تجربة كل منهم، سواء على مستوى تشكّل الصورة الشعرية أو مقدار توظيف الأسلوب البلاغي أو حتى المقارنة في إنتاج المعنى. ناهيك عن أن مناهج المقارنة في الدراسات النقدية متشعبة وتشمل جميع الجوانب المختلفة في حياة المبدع.
بالنسبة لنزار ومحمود درويش على سبيل المثال يمكن أن تتضح ملامح المقارنة بينهما أكثر قبل الانعطافة الكبرى التي أخذ درويش بيد تجربته إليها، والتي شكّلت تحوّلات مهمة في تطوير تجربته باتجاه معانقتها للوجود الإنساني ككل بعد أن كان شاعر المقاومة والثورة والوطن منذ (العصافير تموت في الجليل) بالمقابل ضمن إطار ما قبل هذه الانعطافة نلمس عناصر التشابه في استخدام اللغة الشعرية بين الشاعرين، ويبان ذلك في جل دواوين نزار الذي لم تكن تجربته تأخذ انعطافات كبرى كما درويش.
لذلك لا معنى عن جدوى المقارنة أصلا، من وجهة نظري أرى أن جدوى المقارنة حين نضع التجارب في سياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي ثم نقوم بإثارة الأسئلة حول جدوى العلاقة بينهما على خلفية تجربة كل شاعر في الحياة التي عاشها دون إغفال بالطبع للتطور غير المرئي في أغلب الأحيان للأجناس الأدبية التي عادة ما يكون تطورها بطيئا وإن كانت وشائجه تتصل بكيفية ما بجدل تلك العلاقة. وهذا التوجه نادر نوعا ما في الدراسات النقدية للشعراء العرب رغم كثرتها.
يشبه نزار في مجمل تصوراته عن الشعر والشاعر بالقول بما معناه: أن الشاعر مثل الراقص وأنا أحب الرقص ولا أحب الذي يراقب إحدى الخطوات أثناء الرقص، وذلك في إشارة إلى أنه لا يولي كبير اهتمام بالتنظير حول الشعر كما يفعل غيره.
هذه الملاحظة تحمل في داخلها أبعادا مهمة جدا، وهي تتعلق بالتحولات التي ارتبطت بهزيمة ٦٧ على جملة من الشعراء ومن بينهم نزار.