على نسق «الكلمات والأشياء» لميشيل فوكو، يمكن لنا إعادة قراءة المشهد العمراني في المملكة وفق كلماتنا وأشيائنا الخاصة بنا. أركيولوجيا فوكو في تشريحه للفكر الغربي من أهم الإضافات المعرفية المنهجية التي يمكن لنا توظيفها لقراءة ما تراكم لدينا من معرفة إبستمولوجية كانت، أم عملية أم كليهما. هذه المراجعة ضرورة منهجية لأي فكر طموح يجيب عن الأسئلة المصيرية الكبرى التي لابد من الإجابة عنها لأي عملية نهوض عمراني شامل، ليس وفق منهجية فوكو بالضرورة، ولكن وفق منهجية (أو منهجيات) نقدية موازية تناسب المكان والعمارة والزمان، هيمنت على الخطاب العمراني أو المعماري خلال الثلاثة العقود المنصرمة مصطلحات جعلت من كل منها حديث الساعة حينها. في أواخر الثمانينات تسيد مصطلح التراث العمراني المشهد بدعم من الجمعية السعودية لعلوم العمران الوليدة آنذاك، وأصبح التراث العمراني موجة العصر. وقد تجسد ذلك في صور متعددة كتابة ودراسة ومؤتمرات وجهات داعمة وإعادة تتريث التراث المعماري ذاته. سيبقى التراث حاضرا بقوة سلبا أو إيجابا في فكرنا إلى أن نصل معه إلى توافق منهجي معرفي وواقعي، لكي نرى التراث بكل حمولاته التي ينوء بها العصبة أولو القوة واقعا حيا، لا مجرد خطاب ونوستالجيا أكل عليها الدهر وشرب. سيظل التراث العمراني وخطابه ومؤتمراته وجوائزه حاضرة في المشهد العمراني لدينا ينتظر منا منهجا معرفيا حصيفا، تماما كما فعل فوكو وفي حفرياته الفكرية، بعد التراث وفي بداية الألفية الثانية تسيد مصطلح الهندسة القيمية المشهد العمراني لفترة من الزمن. وكما هو الحال مع كل توجه جديد عقدت الندوات والمؤتمرات وكتب الكثير عن المصطلح. وبعيدا عن التفاصيل المرافقة له تعني الهندسة (إن كانت هندسة في الأساس) إخضاع العمارة لأساسيات علم الاقتصاد. والجانب الاقتصادي في العمارة والهندسة عموما هو من المسلمات المرافقة لأي عملية هندسية كانت أم عمارة، وبالتالي فإن سلخها من أصلها هو من باب التفصيل في مجال فرعي ليس إلا، وما أن خفت صوت الهندسة القيمية حتى شمر مفهوم الاستدامة عن ساعديه. وكما هو الحال مع التراث العمراني من حيث مدى الانتشار وسرعته وكثافة الأنشطة والمنابر التي رافقته أصبح مفهوم الاستدامة حديث الساعة. والاستدامة كمفهوم أجل من أن يكتب عنه في مقال صحفي. وبالرغم من مشروعية المصطلح وأهميته وحاجة التنمية العمرانية له، إلا أنه، حاله حال التراث، مفهوم زئبقي، مطاط، لا تكاد تقف على حالة صلبة يقينية له. ولأن المصطلح شهد رواجا وتنظيرا فقد ادعى الكل أبوته، بدءا من الاقتصاديين فالبيئيين فمختصي الطاقة وكل من له علاقة بالتنمية. ومع كل ما كتب عن الاستدامة فهو لا يتعدى كونه إعادة سكب الماء من وعاء إلى آخر، وكنتيجة لفقدان المدينة المعاصرة لكثير من علاقتها بالإنسان برز في الثلاث أو الأربع السنوات الأخيرة، وربما أقدم من ذلك بقليل، مفهوم الأنسنة إلى السطح. والأنسنة وكما يستدل من المصطلح تهدف إلى إعادة الصلة بين الإنسان محور عملية التنمية وبيئته الحضرية في كل تجلياتها، في الشوارع، والأسواق، وممرات المشاة، في الداخل والخارج وفي كل ما يحيط بالإنسان، ومع ثورة المعلومات بكل تجلياتها بدأ مفهوم الذكاء الاصطناعي يطل برأسه وهو يحاول اقتحام المشهد العمراني وقد بدأت بواكيره تلوح في الأفق في صورة مشاريع مستقبلية لم تر النور بعد. وبالرغم من الحاجة الماسة لتوظيف التقنية الذكية في تشغيل المباني، إلا أن خروجها عن السيطرة وكما تنبأ ذوو الاختصاص في الآونة الأخيرة سوف يقضي على مفهوم الأنسنة التي تحاول إعادة العلاقة بين الإنسان وبيئته. إن كل محور من هذه المحاور الخمسة بحاجة إلى عملية نقد شامل يأخذ في، الاعتبار منشأها ومبرراتها وتجلياتها قبل أن يتم تلقفها والسير في دهاليزها التي قد لا يمكن الخروج منها. وهنا يقفز السؤال: أين العمارة من ذلك كله. والجواب بمختصر العبارة إن العمارة أسمى وأجل وفوق ذلك كله. العمارة إذا ما استقيت من منبعها الصافي حاوية جامعة شاملة لكل المفاهيم التي يثيرها الإنسان حول عمارته.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل