تخيَّل معي طفلًا تائهًا في الصحراء. يلفُّه الظلام، وأصوات الذئاب والضواري تقطع عليه سكون الليل، وكأنها تناديه لحتفه.
مشاعرُ خوفٍ وذعرٍ وفزعٍ تتنازع قلبه الغَضَّ، وتمزّق روحَه الرقيقة، وتحطّم بقايا عزمه الضعيف.
لحظات ممكن أن تبقى عالقةً في ذاكرته، أو ربما بَقيَ عالقًا فيها، حبيسًا لها، لا يمكنه تجاوزها.
ما بالك، لو قلت لك إنَّ إخوانه هم مَن تركوه عمدًا في الصحراء، بعد أن همُّوا بقتله، ولكنهم تراجعوا في اللحظة الأخيرة، واختاروا التخلّي عنه ليواجه مصيره المجهول.
نعم، إنه يوسف «عليه السلام»، الذي تُرِك ليواجه الموت وحده، ثم يُباع بثمنٍ بخس ليعمل خادمًا، وهو الكريم ابن الكرام، ثم يُسْجَن ظلمًا. حتى إذا أدركه فَرَجُ الله، خرج من السجن عزيزًا، وصار على خزائن الأرض وزيرًا.
ولما جاءت لحظة لقائه بإخوانه، الذين غدروا به وتسببوا بكل آلامه ومعاناته، وهو متربّع على عرش مصر، وباستطاعته أن ينتقم منهم ويفعل بهم الأفاعيل، احتواهم بقلبه الطاهر النقيّ، وقال لهم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٰالراحِمِينَ).
قال بعض المفسرين: «لا تأنيب، ولا عتب عليكم، ولا أعيدُ ذِكرَ ذنبكم في حقّي بعد اليوم».
يا الله، أيّ قلبٍ يحمله يوسف بين جنبيه!
ولكنها أخلاق الأنبياء، ونُبْلهم، وسُموّهم. فهذا رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يخاطب كفار قريش الذين آذوه لسنوات، وقالوا عنه مجنون وساحر وكذّاب، وضيَّقوا عليه حتى هاجر من بلده، وقاتلوه وشجّوا رأسه وكسروا رباعيته، ويقول لهم بعد فتح مكة: ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟
قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. قال: «عفا الله عنكم. وما أقول إلا كما قال أخي يوسف لإخوته (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ...)، اذهبوا فأنتم الطُّلقاء».
ولنا في رسول الله أسوةٌ حسنة، فالعفو والصَّفح من شِيَم الكبار.
ولكن هل سألت نفسك يومًا: ما الفرق بين العفو والصَّفح؟
قال الإمام القرطبي: «العفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصَّفح: إزالة أثره من النفس»، فلا يبقى في القلب شيءٌ تجاه المذنب والمخطئ.
وأما الصَّفح «الجميل» فهو صفحٌ بلا تأنيبٍ أو لَوم، أو تذكيرٍ وتعييرٍ بالخطأ.
إنها القلوب الكبيرة، التي تتسامى على حظوظ النفس، فترحم المسيء، وتتجاوز عن الإساءة، وتتطهر من شهوة الانتقام، ابتغاءَ ما عند الله، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
نفوسٌ تعلم أنَّ في العفو عزةً لا انتقاصًا للذات، مصداقًا لقوله «صلى الله عليه وسلم»: «وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا».
نفوسٌ تعلم أنَّ الانتقام همٌّ وشقاء على صاحبه، يجعله يموت في اليوم مئة مرةٍ بغيظه وحسراته. أما العفو والصَّفح ففيهما الراحة، كما قال الإمام الشافعي:
لمّا عفوتُ ولم أحقدْ على أحدٍ
أرحْتُ نفسي من هَمِّ العَداواتِ
فاعفوا واصفحوا، (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).