كل فردٍ لديه مراكز للإلهام تُلهمه بفكرةٍ ما، فيقتبسها من ذاك المركز، ثم يكتبها أو يلحّنها أو يرسمها أو يخترعها، مراكز الإلهام عديدة، وعقلنا كالمغناطيس يجذب الفكرة لسببٍ ما، وتلفت نظره أو سمعه أو حواسّه، فيلخّصها، وتنتج مادة أو اختراع أو نمط مكتوب أو مجسّم لشيء ما أو لوحة أو لحن مسموع، الأرض بما عليها والسماء بما تحتويه والبحار بمَن يكمن فيها أو يُبحر على سطحها، الهواء بكل ما يحلّق فيه، كلها منابر ملهمة، الفصول وتناوبها، الألوان وتفاوتها، الأمراض وعوارضها، النفوس بتقواها وفجورها، الغيبيات وعوالمها كلها مصادر إلهام وفكر الإنسان هو اللاقط المستقبل لإشارة ما اعترضته، فألهمته فنفذها بطريقته الخاصة، ورغم الأصوات التي تلهمني كصوت المطر وصوت الطير وموج البحر وصوت الضحك وأنين البكاء يأسرني الصدى، ورغم مخلوقات الله الكثيرة في البحار يجذبني المركب الذي يتوّجه شراع، والنجوم تترأس كل جميل خُلق يشدني إلى السماء والصقر يتميّز عن كل ما يسبح في الهواء، والبنفسج يقيّد نظري عن باقي الألوان، ورحلة البرزخ تأسرني من الغيبيات، ومرض الوسواس والتوحّد وما يعانيه أصحابه أغراني لكتابة بعض الملاحظات، وجدت في عالمي الذي أواكبه أو ألتقيه أو أقرأ عنه أو منه كنزا لا ينفد من الأنماط، يغذيني بالأفكار ويأسر تأملاتي بغناه، عالم البشر وقوالبهم التي لا تحصر من أشكال وأطباع، صفات وقناعات، مذاهب وأديان، قصص وبطولات، أخيار وأشرار.
وجال في خاطري للحظة من بين كل ذاك صنف غريب من البشر قرأت وسمعت عنهم إلى ربط طبيعتهم ومضمونهم بمثل من القرآن يصف حالًا ومآلًا، وهو قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) 264 سورة البقرة - فالصفوان والتراب والوابل مقابل ذاك الصنف من البشر بحالهم ومآلهم وحقيقتهم ونواياهم المتخفية خلف العمل يبيعون سمومًا للبشر، يرسم خطة محكمة لتجارتهم أساسها وباطنها الخديعة، وظاهرها وهيئتها غاية نبيلة، ثم تُبدي لهم الأيام البواطن وتتكشف الحقائق، ويصابون بذهول، ويجدون ما حصلوه ذهب هباءً منثورًا، وتعلقت في أعناقهم كل النفوس التي دفعوها لخطوط الإدمان، فمات منهم مَن مات، وضاع منهم مَن تاه، وكل شتات وكل حزن وكلّ تحسّب في دعوة، وكل تلك الدموع تساقطت عليهم فتركتهم كذاك الصفوان الذي أصبح صلدًا لم يأخذ من دنياه شيئًا حتى التراب.
عرف
بائع السم رغم حذره يتسلل له السم من طرف خفي، ولا يكتفي بسمّه بل يتسلل لأغلى ما عنده.