في كتابه الموسوم «العمارة الإسلامية: الشكل، الوظيفة والمعنى»، يسهب روبرت هلنبراند في البحث عن أصول المسجد العربي (مسجد السقيفة)، وهو يؤكد على استقلالية شكل المسجد عن معابد الديانات السابقة، وأن الأصول الجنينية لشكل المسجد ترجع إلى صميم الثقافة العربية ذاتها وقت ظهور الإسلام، وهو يرى في بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومسجده في المدينة أصلا لذلك. من حيث الشكل فإن الشبه بين مسجده (صلى الله عليه وسلم) والخيمة حقيقة ثابتة. ومن وجهة النظر الاجتماعية والإنسانية تعتبر الخيمة (بالرغم من بساطتها) أحد أشكال البناء الذي عرفه بدو الصحاري في معاشهم حلا وترحالا. إن اتساع الخيمة واستيعابها لكل الحضور، واستطالتها أفقيا بمحاذاة رواقها، وانفتاحها الكامل على الأفق الممتد بامتداد الصحراء ذاتها، يجعل منها مرجعا ذهنيا للمسجد العربي منذ ظهور الإسلام إلى اليوم. ولعل تحدر مصطلحات المسجد من الخيمة (الرواق، العمود، المحراب،... إلخ) دليل بالغ الأهمية على ذلك.
وكما هو معروف بالضرورة فإن مسجد السقيفة العربي هو في حقيقة الأمر خيمة بنيت من الحجارة، أو الآجر وهو مزيج طيني ممزوج بمواد مساعدة، أو من مداميك الطين، أو الطوب النيء أو المحروق، أو الحجارة، تدعمه الأعمدة بداخله لحمل سقفه الأفقي. وكما هو الحال في الخيمة جلس المصلون في صفوف بمحاذاة رواق الخيمة. كما استبدل موضع جلوس كبراء القوم في صدر المجلس في الخيمة (في وسطها) بمحراب المسجد وإمامه. وإذا كانت قاعة الصلاة في مسجد السقيفة (الخيمة) تمثل الاتجاه الأفقي في العمارة، فإن المئذنة (المنارة أو الصومعة) تمثل الجانب العمودي فيها.
في قراءة تجريدية يمكن لنا اختزال كل ما سبق في خيمة ووتد، والوتد - في معجم لسان العرب- هو: مَا رُزَّ فِي الْحَائِطِ أَوِ الْأَرْضِ مِنَ الْخَشَبِ، وَالْجَمْعُ أَوْتَادٌ، وَالْوَاتِدُ: الثَّابِتُ، وَيُقَالُ: وَتَّدَ فُلَانٌ رِجْلَهُ فِي الْأَرْضِ إِذَا ثَبَّتَهَا، وَأَوْتَادُ الْأَرْضِ: الْجِبَالُ لِأَنَّهَا تُثَبِّتُهَا. وَأَوْتَادُ الْبِلَادِ: رُؤَسَاؤُهَا. وَأَوْتَادُ الْفَمِ: أَسْنَانُهُ. وإذا ما تم تطبيق مبادئ الهندسة على الخيمة فإن أوتاد الخيمة هي التي تتحمل قوة شد حبال الخيمة، إنها مثبتاتها في الأرض، تماما كما ورد في التأصيل اللغوي للوتد.
مئذنة المسجد أو منارته أو صومعته هي عنصر رمزي وحسي أكثر منه ضرورة وظيفية. إنها إشارة، علامه، رمز، دليل وقل فيها ما شئت على المسجد. ومنذ فجر العمارة الإسلامية سرعان ما اكتسب هذا العنصر أهمية بالغة، إلى درجة أنه لا يمكن للمسجد في أي مكان في العالم أن يستغني عن مئذنته، إذا ما تم استثناء إقليم البنغال في شبه القارة الهندية وبعض مناطق الشرق الآسيوي، أما في الصين فإنها تأخذ أشكالا عجبا.
تستحضر هذه الصورة (الخيمة والوتد) ذاتها تلقائيا عند قراءة المشهد المضطرب في كثير من مناطق العالم الإسلامي اليوم. ففي خضم طوفان التشدد اليميني الذي يعصف بالعالم، ترى المساجد في البلدان ذوات الأقليات الإسلامية وقد أصبحت أهدافا مشروعة للمتطرفين. انظر إلى الهند حيث أصبحت المساجد (وهي مساجد سقيفة مطورة) بمناراتها السامقة جزرا محاصرة في سياق حضري مكتظ يزحف نحوها من كل جانب. بل إن تاج محل درة العمارة الإسلامية في الهند ومصدر دخل اقتصادي لا ينضب لبلاد المهاتما غاندي، محاط على مدار الساعة بحماية من الدولة. وفي سهل حطين، والاسم يغني عن أي تفصيل، ما زالت مئذنة مسجد القرية التاريخي الذي يعود للعصر الأيوبي بطرازها العثماني صامدة واقفة في إشارة بالغة الدلالة على ارتباط المسجد بأرضه. في سهل حطين ومسجدها هذه ليست قراءة تجريدية فحسب، بل إنها قراءة صريحة للموقع بكل حمولاته المصاحبة له. المنارة هنا وتد راسخ في الأرض رسوخ المسجد وأصحابه في أرضهم.
خيام وأوتاد، هذه هي الصورة التجريدية (يسميها أدباء اللغة مجازية) لعمارة مسجد السقيفة المنتشر في معظم أصقاع العالم الإسلامي. الخيمة والوتد عطاء العرب لعمارة العالم. وهو عطاء راسخ ثابت ثبوت الوتد للخيمة، رسوخ الجبال، كما سماها القرآن الكريم.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل