@nayefcom
طفلة رقيقة ناعمة اسمها «تجعودة»، تقبل عليك بلطف، دون تردد، وبكل جرأة، تحب الظهور رغم حيائها الذي يمنعها من القدوم مبكرا، ومن العجائب أن الكل يعلم بوقت حضورها، ويتوقع دخولها، ولا يمكن أن تؤذي أحدا أو تؤلمه بذاتها، ومع ذلك كله فهي مكروهة، وغير مرحَّب بها، والكل يخافها، ويخشى إطلالتها، بل ويشعر بعضهم بالعار لو أن أحدا وجدها عنده.
أما أهلها فمنقسمون في الغالب حيالها إلى قسمين، فمنهم من يحاربها بمجرد أن يراها، ويحاول جاهدًا طمسها وإقصاءها، وقد يدفع ما يملك لإخفائها، وكأنها تحمل خنجرا مسموما، أو سهما مسنونا. ومنهم من يبتسم لها، ويحترم مقدمها، ويتعايش مع رغباتها، ولا يجد حرجا كبيرا لو زاره أحد ووجدها عنده.
وبرغم خجلها إلا أنها تزورك عنوة، ولا تنتظر بطاقة دعوة، فإذا جاءت لا تفتأ تملأ المكان وتزاحم الأركان، وتنتقل تاركة آثارها في كل زاوية وناحية، ولا أظن أحدا رآها فاستبشر بلقياها، فحضورها محزن، ووجودها مفجع، وحديثها صمت يحمل في طياته ألف حكاية وحكاية...
«تجعودة» مفردة لا تأتي إلا جملة مع أخواتها، لتكون معهن بما يسمى «تجاعيد» الزمن وضريبة العمر التي نظن أنها تظهر فجأة، وتأتي على حين غرة، وتنزل غفلة، بينما هي لا يمكن أن تأتي بغير وقتها، ولن تطرق بابك إلا حين يحين دورها. فعلام إذن نفجع بها! ويضرب بعضهم «الفيلر» للهروب منها!
هي لا تأتي عبثا، ولا تلتقي إلا بمن امتلأ من هذه الدنيا حكمة وتجارب وحبا وأملا وألما، كما أنها لا يمكن أن تأتي عند من لا يزال يحاول أن يفهم حكاية الحياة، ولا تحب أن تجلس في مجلس من لم يجرب صروف الدهور، وفواجع الأمور، ولا يمكن أن تكون عند من لم يفقد غاليا، وينكسر له قلب، ويخيب له رجاء.
هي لا تعترف بكل هؤلاء، بل هي لا يمكن أن تصل إليك إلا بعدما تصل أنت إلى عمق الوعي، ووعي العمق، وتبلغ بك الحكمة كل مبلغ، فيبدأ الناس بحضورها يقبلون رأسك، ويقدمون مجلسك، ويبدؤون بالسلام عليك، وتصب القهوة لك أولا، ولا يدلف إلى مكان قبلك، ويقدر العقلاء منهم قولك ومقالك.
هي رأس العقل والحكمة، وعلامة الوقار والسلامة، وختم على جواز تعبر به قنطرة الجهالة، فمن بلغته فقد بلغ من هذه الدنيا الغاية، وتعلم منها ما يكفي لأن يلقب بحق مستشار أو مستشارة.
هي لا تحب إلا من عافرته الحياة فعفرها، وأيقن أن سنوات العمر مهما طالت قصيرة، فلا صاحب دائم، ولا حال ثابت قائم، وأن الأصل هو الفقد، وأن الدنيا تجمع لتفرق، وتقرب لتبعد، وتعطي لتمنع، وتزيد لتنقص، وأن الدروس فيها لا تنتهي، وأن الصمت أحكم رد، وأن الاستماع يكشف لك القلوب رغم ضعف حاسة السمع، وأن كثيرًا من حروب النقاشات لم تعُد ذات قيمة، وألا صفرية في لغة الحياة، فإن لم تكن إضافة على هذه الدنيا فأنت نقص، ولا يلزم أن تكون مشهورًا أو عالمًا خارقًا أو حائزًا على أعظم جوائز الدنيا العلمية حتى تحقق لك القيمة، فكم من جندي مجهول كان سببًا في حماية وطن، يكفي أن تقوم من النوم ولك طموح تحاول تحقيقه، أو عمل لإنجازه، أو شغف لبلوغه، أو علم لإتقانه، أو مهارة لاحترافها، وإلا فقد سلّمت نفسك لضيق النفس، وتزاحم الملل، وفقد الأمل ...
فهل يا ترى علينا أن ننتظر زيارة تلك التجعودة حتى ندرك تلك الحقائق؟!