قد يكون الدافع الأقوى وراء تطوُّر الجنس البشري هو حلم السعادة، فقد تركزت احتياجات البشر قديمًا في المأكل والمأوى والجنس، وكانت أنشطة الأكل والمأوى متداولة بنجاح، فهو يصطاد، ويجمع الثمار، ويأكل، وأما الجنس فلم يكن به الكثير من القيود والعقبات، فالكل يشبه بعضه البعض، ولا طبقات ولا هرمية، وتبقى المشكلة الحقيقية في تطلّع الإنسان لأن يتسيّد مساحته ويحمي جماعته، ومن هنا حدث التغيير، فقد حاول تحقيق حلمه بأية طريقة ممكنة حتى لو على حساب استنزاف هذا الكوكب، فاحتكّ حجرين فاكتشف النار، ثم تأمل نباتات تنمو فاخترع الزراعة، وتوالت الانقسامات حتى انتهى المطاف لنتحوّل لكائنات بشرية تستيقظ نهارًا تعمل، تدرس، تكدح، تتكاثر، تسعى وتخشى البهجة والسعادة، حيث خلقنا جبالًا من المخاوف والقناعات من الاشتراطات لتمنحنا السعادة وتجلب لنا الفرح، مؤكدين مقولة تولستوي في روايته أنَّا كارنينا: «كل العائلات السعيدة متشابهة، ولكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة»، فلدينا قائمة ذهنية بالأشياء التي نعتقد أننا إذا فعلناها سنكون سعداء، والعديد من الإنجازات التي يشجّعنا مجتمعنا على مطاردتها، كالثروة، القوة، المظهر الجميل، الشريك المثالي، الوظيفة المرموقة، ولن نكابر وسنعترف بأن الحصول على هذه الأشياء يشعرنا بالارتياح بداية، ولكن حين يتعلق الأمر على المدى الطويل فلا يدوم التشويق؛ لأننا كبشر نتكيّف مع الظروف الجديدة كميزة ساعدتنا على البقاء وتعمير الأرض، وما تلبث أن تعود الأمور لخط مستقيم رتيب، ولهذا تصبح السعادة ليست ملعقة ذهبية نولد بها، ففي عالم ضاغط مشبع بالصراعات والأوبئة والمآزق النفسية والحروب والفقر لا بد من السعي والكفاح لاغتنام فرص للسعادة، وسيختلف فرق هذا المجهود من شخص لآخر، وبالرغم من بحث العلماء في كل شيء، فهم نادرًا ما يتساءلون عن تأثير ذلك على سعادة الإنسان المعاصر، ومع ادعائنا جميعًا أننا نريد أن نكون سعداء، فإنّ السعي وراء السعادة لا يصل إلى أعلى قائمة مهامنا حياتنا مشغولة، ونادرًا ما نسأل أنفسنا في نهاية اليوم ما إذا كانت هذه المهام تجعلنا حقًا سعداء؟، لكن الخبر الجميل أن هناك الكثير من الأشياء الإيجابية التي تجعلنا حقا سعداء، وتزيد من مستوى الرضا العام، ولا تتطلب الثروة الهائلة أو الفوز باليانصيب أو بعض التغيرات الجذرية في ظروفنا، وما يتطلبه الأمر جوهريا هو تغيير داخلي في المنظور والموقف، مع اعترافنا الشجاع بأن هذا التغيير لا يأتي بسهولة، حيث تستحوذ خيبات الأمل والإحباطات على معظم انتباهنا، ومن الحكمة أن نستوعب مفهوم السعادة، فهو مصطلح واحد، لكنه قوس قزح من نكهات مختلفة من العواطف والتعريفات، بعضها يجعلنا أكثر نشاطا، والبعض الآخر يثبطنا، البعض يجعلنا نشعر بأننا أقرب للآخرين، والبعض الآخر يجعلنا أكثر انعزالًا، ولذلك فحين نسأل الناس عن تصورهم للسعادة تنعكس حقيقة مهمة، وهي أن إجابة هذا التساؤل غالبًا ما تكون بطريقة ذاتية، أحادية، شخصية للغاية، يضع فيها الفرد معاييره وفكره وخلفياته وتصوراته واحتياجاته في التقييم، وكأن لكل منهم تقييمه الخاص، وهذه الاختلافات في تصورات السعادة عبر اللغات والثقافات والزمن لها آثار مهمة في إثراء مخزون السعادة الكوني، فاستمر في التفكير واستمر في السؤال حتى تصمم المعنى الأنسب لك.