تعيش الجامعات هذه الأيام والأسر موسم حصاد، فمع نهاية كل عام دراسي تزف الجامعات خريجيها إلى أهلهم وأسرهم وذويهم في احتفالات مهيبة برعاية كريمة من الدولة، احتفالا بموسم الحصاد ومشاركة للجامعات في أفراحها السنوية هذه.
الشهادة الجامعية هي نهاية مرحلة فريدة في عمر كل خريج ستبقى لأصحابها ذكرى قد لا تتكرر في مشوار الحياة، فالحياة الجامعية بكل ما انطوت عليه من تفاصيل أكاديمية أو معيشية أو من أي نوع كان هي مرحلة فريدة في حياة كل جامعي. غير أن هذه الشهادة هي بداية جديدة تماما لحياة مختلفة تماما. الوثيقة الجامعية أيا كانت درجتها هي جواز سفر لحياة مهنية من جهة ولحياة اجتماعية من جهة أخرى.
ومع كل دفعة تخرج، ومع كل كوكبة جديدة من الخريجين والخريجات، يتكرر السؤال نفسه كل سنة: إلى أين تتجه هذه الجحافل من الخريجين والخريجات.؟ إنه سؤال الجميع، وسؤال القطاع العام والقطاع الخاص، والأسر، والأفراد، وقبل كل أحد الخريجين أنفسهم فردا فردا.
ترسخ لدينا على مدى عقود رؤية ترى في التعليم الأكاديمي ممثلا بالجامعات رافدا أساسيا لسوق العمل، لدرجة أصبحت معها هذه العبارة وكأنها محور التعليم الجامعي وأساس وجوده وغاية مراده.
إن تقديم مصلحة سوق العمل على التحصيل الأكاديمي الصرف يجعل من الجامعات تابعة للسوق. وعن أي سوق تتحدث؟ يجب أولا تعريف سوق العمل. إن ما يتبادر إلى الذهن هو القطاع الخاص. لكن عن أي قطاع خاص نتحدث.؟ وهل هناك قطاع خاص مستقل بذاته له مقدرة اقتصادية وإدارية وتشغيلية لكي يقود قاطرة التنمية ومن ثم الجامعات.؟
إن تقديم متطلبات سوق العمل على التحصيل الأكاديمي يجلب كل حمولة السوق معه إلى الجامعة بكل ما يترتب على ذلك من تفاصيل. هنا يصبح سوق العمل هو موجه العملية التعليمية برمتها، والأمر أشبه بوضع العربة قبل الحصان.
تاريخيا، لم تنشأ الجامعات لأسباب اقتصادية، ولم تكن تلبية حاجات السوق الاقتصادية يعنيها في شيء فقد كان للاقتصاد مساره الخاص في تشغيل السوق. نشأت الجامعات (بولونيا، كامبردج، السوربون، وغيرها) لأسباب معرفية بحتة. لقد كان طلب المعرفة أولا وأخيرا هو سبب إنشاء الجامعات وقصة أكاديمية أفلاطون معروفة للجميع.
عندما تكون المعرفة الهدف الحقيقي للجامعة وتسخر كل إمكانات الجامعة لهذا الهدف، فإن تلبية احتياجات المجتمع جميعها، وليس فقط الاقتصادية ستكون تحصيل حاصل. انظر إلى عمالقة التقنية في العالم من الراحل ستيف جوبز، إلى بيل جيتس، إلى صاحب الفيس بوك ولاري بيج وسيرغي بيرنين مؤسسي جوجل. هؤلاء هم من صنعوا سوق العمل. غير أنهم لم يصنعوه في الجامعات. لقد كان مرآب السيارة هو ورشة عمل هؤلاء الرواد الأفذاذ. إنهم لم يكونوا بحاجة إلى جامعة، ولا إلى بيروقراطية متأصلة لكي يبدعوا إنجازاتهم. كل ما استلزم هؤلاء عمله هو فكرة معرفية خلاقة وهذا ما هو منتظر من الجامعات.
إن ربط الجامعة بسوق العمل مع غموض المصطلح يحيل الجامعات لدينا إلى معاهد للتقنية، إلى ما يشبه ثانويات مطورة، إلى مؤسسات همها الأول والأخير توظيف خريجيها. المعرفة شغف وبحث واكتشاف وتمكن من ناصية العلم، وعندها تتعدد صور النجاح ويتم إغراق سوق العمل بفيض من الأفكار الخلاقة ويصبح عندها تابعا للجامعة لا متبوعا.
يقول المثل الصيني: «لا تعطني سمكة، بل علمني كيف اصطاد». وهذا ينطبق تماما على ما يجب أن تكون عليه أي سياسة تعليمية ناجحة.
أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل