يحدد علماء النفس أسلوبَين للنجاح، المتابعة باجتهاد أو الابتكار، والمتابعة تعني اتباع المسار المألوف بجدية والحفاظ على الراهن، أما الابتكار أو الاستقلال الفكري فهو يرفض التكرار، ويميل للانتصار للأفكار الجديدة، والسباحة عكس السائد، وليس هناك ابتكار صرف؛ لأننا في حالة تأثر واحتكاك متواصل، وجميعنا يقترض الأفكار بقصد أو بدون، فالتعريف الأنسب له هو تطوير فكرة غير معتادة نسبيًّا في مجال معيّن وإمكانية تحسينها، وهي تبدأ بالإبداع وتوليد المفاهيم الجديدة ولا تتوقف عنده، حيث يأخذ المبتكرون بزمام المبادرة للنهاية لجعل رؤيتهم تتحوَّل من فرضية غير مألوفة لنتيجة محسوسة، فالسمة الأبرز هي إعادة التفكير في الوضع الافتراضي أو التشكيك في جدواه لاكتشاف خيارات أفضل، ونقطة الانطلاقة هي الفضول. فحين يتملكنا الفضول نحو بعض الأوضاع غير المجدية، سنجدها مجرد قوالب تفكير متكررة، وسنمتلك شجاعة الابتكار في أساليب أنفع لتطويرها، لكن ضغط القبول بالراهن ومسايرة المألوف يبدأ في الصغر، حيث توضح الأبحاث أن التلاميذ الأقل حظوة عند مدرسيهم هم المتمردون الذين يضعون قوانينهم الخاصة، فأغلب الأساتذة لا ينسجمون مع الطلاب المبدعين ويسمونهم بمثيري المشاكل، لكثرة أسئلتهم أو عدم انقيادهم، فتستجيب الأغلبية الباقية بالتأقلم مع المفروض والاحتفاظ بأفكارهم تجنبًا للصدام، وحين يكبر هؤلاء الموهوبون يصعب عليهم القفز خارج الصندوق والالتحاق بعالم الابتكار، وتذهب جُل طاقاتهم في استهلاك معرفة علمية موجودة دون إنتاج رؤى مغايرة، لكسب رضا آبائهم وإعجاب معلميهم، فتترسخ لديهم دوافع الميل للعمل بجد واجتهاد أكثر، ويتعمق حافز الإنجاز ليزاحم الأصالة، فكلما زادت لدينا قيمة النجاح المضمون زاد الخوف من الفشل، فنستبدل الطموح لإنجازات متفردة بالرغبة في تحقيق النجاح الآمن، ولهذا تؤكد دلائل الواقع أنه بمجرد ما يتخطى الشخص معدلا متوسطا من النجاح تقل لديه الحاجة للإبداع، فلقد كبح الخوف من مجازفات الابتكار معظم طاقات المبدعين في التاريخ، وترددوا في السعي للأصالة الابتكارية لاهتمامهم بحفظ الاستقرار وإحراز النجاحات التقليدية. وحين يحاول بعضهم الانطلاق، تسعى الأغلبية ممن حوله بإقناعه بعدم المجازفة، حيث تسود لدى الكثير قناعة راسخة بأن الانضمام لرواد الابتكار يتطلب مجازفات خطيرة، فرغم انبهارنا بهم نفترض أنهم مخلوقات أخرى لديها مناعة ضد المخاطرة، والتعايش مع الشك وتجاهل قبول المجتمع، وأنهم لا يقلقون من مضار الخروج عن المألوف، ومحصنون ضد الخوف والرفض، ولا بد من نسف هذه الخرافة بتوضيح ميكانيكية القرار لدى هؤلاء المبتكرين، فهم ليسوا مغامرين جبابرة، لكنهم أشبه بالمستثمر الذكي الذي يدير محفظة استثمار متوازنة، فالمبتكر في مجال إبداعه يحرص على بقاء محفظة المخاطرة متزنة في المجالات الأخرى البعيدة؛ لأن الشعور بالأمان في مكان يتيح الحرية للابتكار في آخر، فهم يخوضون مخاطرات كبيرة في حقل إبداعهم، ويتسمون بالحذر الشديد في الحقول الأخرى، وشجاعتهم ليست في انتفاء خوفهم من كسر المألوف بل في مهارة إدارته.