في الآونة الأخيرة، مع التحولات الكبرى التي يعيشها المجتمع في أبعاده المختلفة، أصبحت الساحة الثقافية في المملكة لا تهدأ على طول السنة، من كثرة الأنشطة والفعاليات والمهرجانات ومعارض الكتب والمشاريع والمبادرات التي تتعلق بالأدب والشعر تارة، والفكر والفلسفة تارة أخرى. وكأننا أمام خلية نحل تعمل على مدار أربع وعشرين ساعة.
ما قبل التحولات، كانت الفعاليات والأنشطة الثقافية محدودة العدد، وموزعة على مؤسسات رسمية كالأندية الأدبية، أو جمعيات الثقافة أو بعض المجالس الثقافية الأهلية ذات الشهرة الكبيرة كمجلس العلّامة حمد الجاسر بالرياض، أو مجلس المرحوم «بإذن الله» عبدالمقصود خوجة بجدة. عدا بالطبع الأنشطة الصحفية من ملاحق ومجلات وصحف، وأيضًا قنوات تليفزيونية، وهذا كله كان العنوان الكبير للخطاب الثقافي الذي كانت تنتجه الساحة الثقافية آنذاك، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. وعليه لم يكن من الصعوبة بمكان، في ذاك الوقت (وأنا أشير إلى فترة الثمانينيات والتسعينيات تحديدًا) أن يكون باستطاعتك متابعة أغلب الأنشطة والفعاليات حضورًا ومشاركة، بالخصوص إذا كنت فاعلًا بالمشهد الثقافي، ومعنيًا به على درجة كبيرة من الاهتمام، وكانت أيضًا الأسماء الفاعلة في المشهد من مثقفين وأدباء وكتّاب معروفة للجميع، رغم كبر المساحة الجغرافية للمشهد وتنوعه الثقافي والاجتماعي.
إذن ما الذي تغير، ويمكن ملاحظته بالمقارنة مع تلك التحولات؟
أول هذه التغيرات المهمة التي انبنت عليها الإستراتيجية الكبرى للثقافة عند وزارة الثقافة، هي إعادة النظر في تصورها للثقافة، بما يحقق متطلبات المرحلة الثقافية المعاصرة التي تنطوي على الانفتاح نحو ثقافات العالم، والإقبال والمشاركة في صناعة محتواها العالمي، وفق الهوية التراثية والقومية للمجتمع السعودي. وهذا التصور للثقافة لم يقتصر -كما رأينا ذلك قبل التحولات- على الأنشطة الأدبية والنقدية والفنية والمسرحية والفكرية، وإنما فتح الباب بقوة على الأنشطة الجمالية التي يمارسها الإنسان في حياته كالأزياء والرقصات التراثية والأكلات الشعبية والغناء الموروث والموسيقى، وأخيرا السينما.
وقد تزامن هذا التحول في تصوره للثقافة، إعطاء دور أكبر للمرأة السعودية في صناعة المحتوى الثقافي للمملكة داخليًا وخارجيًا، وإفساح المجال للشباب من الجنسين في المساهمة من خلال مواهبهم المتعددة للعب دور فاعل في قيادة دفة الثقافة.
أما ثاني المتغيرات المهمة، فهو ربط هذا التصور للثقافة بمجال الترفيه، وهو ربط تشتمل أهدافه الكبرى على امتزاج الأنشطة الثقافية بالأنشطة الاجتماعية ذات الصبغة الترفيهية العائلية، وهذي خطوة جد مهمة، رأينا ذلك في تفاعل الناس الكبير إذا ما وجدوا الأماكن المفتوحة الترفيهية، كالكورنيش والأماكن التراثية والحدائق والمقاهي تقام فيها أنشطة أدبية وفكرية لكل الفئات العمرية. لذلك الذهاب بالفعاليات الثقافية إلى تلك الأماكن المفتوحة هي رغبة حقيقية في جعل النشاط الثقافي مجالًا حيويًا للتواصل بين فئات المجتمع، بعدما ظلت هذه الأنشطة حبيسة القاعات المغلقة، وهو ما ينسجم بالتالي مع التصور العام للثقافة.
كما هي المهرجانات الكبرى المشهورة في أوروبا كمهرجان لوديف وسيت في الريف الفرنسي للشعر العالمي، وغيرها العشرات، بل المئات التي تقام سنويا في أنحاء أوروبا، وأغلبها أمسيات وندوات تقام في الشوارع العامة والشواطئ والمتنزهات والكنائس والمتاحف.
لكن ثمة ظواهر جديدة أفرزها هذا التصور للثقافة، وبانت شواهده حينما جرى تطبيقه، منها الطلب المتزايد على الشعراء والأدباء والكتاب المثقفين للمشاركة في فعاليات متشابهة، وكأننا أمام سباق محموم للوصول إلى أرقام قياسية للمشاركة فقط، وهذه إحدى الظلمات الكبرى إذا الشاعر أو المثقف غاية طموحه المشاركة والبروز فقط.