يعدون على أصابع اليد الواحدة، أولئك الرجال الأفذاذ الذين أثروا في حياة البشر، كما فعل كونفوشيوس، ولعل المؤلف الأمريكي مايكل هارت قد أتى على ذكر ذلك في كتابه المائة الأعظم في التاريخ، حيث أتى نبينا الأعظم (صلى الله عليه وسلم) على قمة هؤلاء الخالدين، فيما أتى كونفوشيوس في المرتبة الخامسة.
كونفوشيوس لمن لا يعرفه هو معلم الصين الأول. هو (إلى جانب آخرين) أبو الصين. إنه مشرع ثقافتها وصانع قيمها ومجتمعها. والصين اليوم تدين في جزء أساسي من نهضتها إلى تعاليم كونفوشيوس. صحيح أن كونفوشيوس وتعاليمه قد أصابها ما أصابها كما هو حال كل شيء في الصين، إبان الثورة الثقافية، لكن الأمور ما لبثت أن عادت إلى نصابها وعاد الرجل إلى مقامه.
في الخامس من هذا الشهر، دشنت إحدى الجامعات الأهلية الرائدة في الرياض فرعا لمعهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية، وقد تم تقديم ذلك في حفل تبنته الجامعة وقيادتها. وإنك لا تعلم عم تتحدث: عن كونفوشيوس وتعاليمه، أم عن اللغة الصينية، أم عن الخط الصيني، أم عن عمارة الصين. إنه حديث عن هذا كله.
ليس هنا محل الحديث عن تعاليم كونفوشيوس، وما أكثرها، لكن جوهرها يتلخص في أهمية الحفاظ على البناء الاجتماعي، على قيم العائلة، على تقدير الجماعة، على الولاء للمجتمع وكبار السن وحكمتهم. يصب هذا كله في بناء مجتمع ودولة (ذات بيروقراطية محكمة ونظام اختبار فعال) على تناغم مع بعضهما. يعني ذلك في التفاصيل إخضاع القوى الاجتماعية من اقتصاد وسياسة وتملك الأرض وفلاحتها، وعلاقات بين كافة شرائح المجتمع، وغير ذلك من الأمور الاجتماعية لحالة من السلم والتعايش المبني على أسس قوية راسخة، مما مكن الصين أن تعمر كدولة، لا يوازيها في ديمومتها دولة أخرى على وجه الأرض.
معروفة سلفا مكانة الصين الدولية اليوم التي أصبحت كابوسا يقض مضاجع المعسكر الغربي. فالصين قادمة بقوة إلى مسرح السياسة الدولية ليس بقوة البارود كما فعل الغرب، ولكن بقوى ناعمة جذورها راسخة في تعاليم كونفوشيوس. وعندما قررت المملكة تدريس الصينية كلغة أساسية شأنها شأن الإنجليزية، فإن ذلك لم يأت من فراغ، بل أتى عن رؤية ثاقبة وتبصر وحكمة في قراءة المستقبل الجيوسياسي للمستقبل القريب، الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق. وكما هو معروف بالضرورة فإن التمكن من لغة قوم هو مفتاح فهم الثقافة وأصحابها والتعلم منها، فما بالك وهؤلاء القوم هم الصين.
غير أن هناك جانب أكثر أهمية وأنصع بياضا. إنه الخط الصيني. من المعروف أن اللغة الصينية لغة بصرية. فعلى عكس معظم العائلات اللغوية السائدة في العالم اليوم فإن اللغة الصينية تستمد أشكالها (حروفها وكلماتها) من تصوير بصري للأشياء ومن ثم تحويلها إلى أحرف وكلمات يختلف معناها ضمن السياق الذي ترد فيه. ليس هذا فقط فهناك المزيد. فالخط الذي تكتب به اللغة الصينية هو إلى الرسم أقرب منه إلى الكتابة. ولعل استخدام الفرشاه في كتابته (على عكس القلم في العربية وأخواتها) يؤكد على الصبغة الفنية الجمالية للخط الصيني.
لكن الخط الصيني وهو يستلهم الفن في كتابته للغة يجلب معه العمارة الصينية، وهذه تجلب معها عمارة المساجد في الصين. هذه الأخيرة (مساجد الصين) أبنية نسيج لوحدها. فبالرغم من أن المسجد عربي المنشأ تاريخا ومفهوما إلا أنه قد أخذ في الصين شكلا مختلفا لا تشبهه أي مساجد على وجه الأرض. المسجد في الصين بناء صيني من بابه لمحرابه.
إن إنشاء هذا المعهد في هذه الجامعة ذات الرؤية الثاقبة، لهي مبادرة رائدة وخطوة نوعية ليس فقط في الاستفادة من الإرث الثقافي الجبار للصين، ولكن في إثراء للجامعة ذاتها في برامجها وخططها الأكاديمية. بهذه المبادرة نقلت الجامعة ما كان يعرف بالكراسي البحثية في عدد من الجامعات، وما أكثرها، إلى مستوى آخر من طلب المعرفة وتبادل الخبرات والثقافات ضمن مؤسسات أكاديمية متخصصة، كم نحن في أمس الحاجة إليها. فيالها من مبادرة عظيمة عظم الآمال المعقودة عليها، تماما كما ورد في القول المأثور: اطلبوا العلم ولو في الصين.
أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل