هناك حوار عقلي مستمر يدور في رؤوسنا بلا توقف، فهل تساءلت يومًا لمَ يجري هذا الحوار، وكيف يقرر ماذا يقول ومتى يقوله؟ وكم ممّا يقوله ذو أهمية؟ وإذا كنت الآن تتساءل عما أعنيه بهذا الصوت أو تنفي وجوده في رأسك، فهذا هو بالضبط الصوت الذي نعنيه، لكنك قريب جدا من هذا الصوت، الأمر الذي يصعُب معه أن تكون موضوعيا في حكمك عليه. وعليك أن تتراجع كثيرا إلى الوراء كي تراقبه يتحدّث. فعندما تكون متعبا وتريد أن تنام، ستسمع حوارا داخل رأسك: «ما الذي علي عمله؟ لا أستطيع الذهاب للنوم الآن. نسيت أن أتصل بفلان، لكن الوقت متأخر جدا وأحتاج للنوم ولا أستطيع. ما الحل فغدا يوم حافل في انتظاري، وعلي أن أستيقظ باكرا». لا عجب أنك لا تستطيع النوم مع سماحك لهذا الصوت بالتحدث طوال الوقت، ولو استغرقت وقتا أطول في مراقبته فستلاحظه لا يسكت إطلاقا، ويسترسل في الحديث بلا توقف، كأنك تشاهد شخصًا غريب الأطوار يتجول هنا وهناك متحدثا مع نفسه، وسوف تتساءل «إذا كان الذي يتحدث هو نفسه الذي يسمع، فما الفائدة؟» وهذا هو الوضع بالنسبة للصوت بداخل رأسك. فأنت من يتحدث وأنت من يسمع. وعندما يتجادل الصوت مع نفسه، فمع من يتجادل؟ ومن الذي يفوز؟، لكنك لو انتبهت بدقة فسترى أن كل ما يحاول الوصول إليه هو قرار مناسب للرّاحة، وسيقوم بتغيير الأطراف في غمضة عين لو بدا ذلك مساعدًا. ولن يهدأ وسيقوم ببساطة بتعديل وجهة نظره ويستمر في الحديث. ولو حاولت أن تصرخ عليه في محاولة لإسكاته فستدرك أن الصوت يصرخ على الصوت، وأفضل وسيلة للخلاص من هذه الثرثرة المتواصلة أن تتراجع إلى الوراء، وتنظر إليه بموضوعيّة وكأنما شخص ما يتحدث إليك، لا تفكر فيه بل لاحظه، وبغض النظر عما يقوله فكلامه يشبه بعضه بعضًا، وليس مهما لو كان ما يقوله جميلا أو مزعجا لأنه مجرد صوت يتحدث داخل رأسك. والطريقة الوحيدة التي تتخذ بها مسافة تجعلك بعيدًا عنه هي أن تتوقف عن مخالفة ما يقوله، فليس هناك من شيء يستطيع هذا الصوت أن يقوله ويكون معبراً عنك أكثر من أي شيء آخر تراه ولا يمثلك ولا يعبّر عنك، فافترض أنك تنظر إلى إناء للزهور، وصورة، وكتاب. ثم تُسأل: أي هذه الأشياء هو أنت؟ بالطبع ولا أيّ منها! فأنت من ينظر إلى تلك الأشياء. ولا يهم ما تم وضعه أمامك لأنه سيبقى دائما بعيداً ومنفصلاً عنك وأنت من ينظر إليه من مسافة أو ضفّة أخرى، وهذا يصح أيضاً في حالة سماعك للصوت الداخلي، أن تلاحظه وتراقبه كشيء منفصل عنك. لا يوجد هناك فرق فيما يقوله، فأنت الوحيد الواعي له. وطالما اعتقدت أن شيئا مما يقوله يمثلك، وشيئا آخر لا يمثلك فهنا ستفقد موضوعيتك، ربما اعتقدت أنه صوتك عندما يقول الأشياء الطيبة فقط، وربما تحبّ ما يقوله، لكنك لست أنت من يقول. وليس هناك ما هو أكثر أهميّة كي تنمو وترتقي بشكل حقيقي من إدراكك بأنك لست أنت ذلك الصوت الذي في رأسك. أنت فقط من يسمع هذا الصوت. وإذا لم تستوعب هذا فستظل في صراع وبحث دائم، حيث يرغب الناس في اكتشاف أي من هذه الأصوات الذهنية المستمرة هو صوتهم، وأي جزئية منها تعبّر عن شخصيتهم، والإجابة ببساطة أنك إذا راقبت الصوت بموضوعية، فسترى أن كثيرا مما يردّده هو ضياع للوقت والطاقة. وأنه لا فائدة من الثرثرة الداخلية المتواصلة، وليس هناك من سبب لمحاولاتك المستمرة لمعرفة كل ما يحدث أو سيحدث أو حدث، وسترى في النهاية أن السبب الرئيسي وراء المشاكل ليس الحياة نفسها، بل إنه الاضطراب الذي يُحدثه العقل بشأن الحياة.