بالرغم من أن الحج هو خامس أركان الإسلام، ومشروط بالقدرة الاقتصادية والجسدية على أدائه، إلا أنه مع ذلك الأكثر تعبيرًا عن دين بعينه وأناس وثقافات وشعوب شتى. ففي مثل هذه الأيام من كل عام تستقبل المشاعر المقدسة أعداد الحجيج الغافرة الهادرة في ثلل وجماعات وموجات تترى.
كثيرة هي مناسك الحج من طواف وسعي، وحلق أو تقصير، ورمي للجمرات، وذبح الأضحية، وأدعية وصلوات. إن كلًّا من هذه المناسك له رمزيته الخاصة به، غير أن الإحرام هو الأكثر وضوحًا ورمزية، ولذلك فإنه الركن الأول من أركان الحج، ولا يصح الحج بدونه.
الإحرام ببساطة هو ارتداء الحجيج لباسًا أبيض تبدو معه جموع الحجيج، أتت من كل فج عميق، وقد توحدت في لباسها. الإحرام هو لباس، لكنه نوع خاص من اللباس. بداية فإن اللباس قد حظي بذكر خاص في القرآن الكريم في سورة الأعراف في قوله تعالى: «يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ﴿٢٦﴾».
واللباس بوجهٍ خاص إنتاج بشري إنساني ثقافي مبهج. إنه أحد أهم ما يميّز الإنسان عن الحيوان، وما يميّزه ثقافيًّا أيضًا عن أخيه الإنسان. وكما أن هناك بين بني البشر تنوعًا لغويًّا وحضاريًّا في المأكل والمشرب ولون البشرة واللغة والكتابة والعمارة، فإن هناك أيضًا تنوعًا أكثر غنى في اللباس، ونظرة واحدة لخارطة العالم للباس تفي بهذا الغرض.
غير أن اللباس في الثقافة العربية والإسلامية يتخذ أبعادًا ثقافية غاية في الأهمية. فقد ارتبط بداية بقصة الخلق وأصبح أداة لستر العورة، واتقاء غائلة البرد، واتقاء الإنسان لبأسه. وفي الثقافة والحضارة الإسلامية تجد اللباس ومشتقاته حاضرة بقوة في كل بادية وحاضرة.
انظر إلى العمارة ترى أبنية وقد غطّتها الزخارف في عمائر الدولة، ناهيك عن أثاثها وسجادها. وانظر إلى النقوش الجدارية أو الخشبية في عمائر القرى والبوادي، أو على أروقة خيام السدو ترَها كلها قد استمدت مفرداتها من اللباس. ولعل اشتقاق العمارة لمفهوم الطراز (من تطريز الملابس) يشي بأهمية اللباس في الثقافة الاسلامية، وكثير من مظاهر الفرح والاحتفالات تتجلى في أبهى صورها في اللباس وها هو العيد عيد اللباس.
في هذا السياق يأتي لباس الإحرام ليؤكد هذا المعنى ويحمله إلى آفاق دينية وعالمية تستبطن قراءات شتى. لباس الإحرام احتفال من نوع خاص وفي سياق خاص. بداية فإن توحيد لباس الإحرام هو رمز لوحدة الخالق ودينه ووحدة البشر.
لقد صهر الإحرام وأذاب جميع الفوارق بين الناس، الأبيض والأسود، الغني والفقير، الكبير والصغير، خاصة الناس وعامتهم، وكل تميّز لبني البشر، فهنا انصهر الحجيج في لباس واحد.
الأبيض لون الشمس، وهو أبو الألوان وجامعها، فكل الألوان الأساسية والثانوية والثلاثية تعود في مجموعها للون الأبيض، كما أثبت ذلك نيوتن في تحليله لضوء الشمس. واللون الأبيض موجود في جميع الألوان بدرجات مختلفة، ولولا اللون الأبيض لكانت حياة البشر مختلفة في كل ما يحيط بهم. واللون الأبيض لون تجريدي. إنه ليس حارًّا كالأحمر ولا باردًا كالأزرق. وهو أيضًا أخف الألوان. وهو كما ضده الأسود لون حيادي يتوافق مع جميع الألوان غير أنه يتميّز عنه بكونه لونًا إيجابيًّا، وهو رمز للسلام والتفاؤل وطيب المعشر، والراية البيضاء ضرب من المدح.
هذه الكونية المجردة، إن صح التعبير في اللون الأبيض، يستحضرها مشهد الحجيج. ففي الصحراء اللاهبة المقفرة من كل شيء يتجلى مشهد اللون الأبيض ورمزيته وتعدّد قراءات المشهد الفريد بأعداد الحجيج أنفسهم فردًا فردًا.
اليونيفورم (uniform) مصطلح يعني توحيد لباس منسوبي المؤسسة في زي واحد. الإحرام هو «يونيفورم» في أسمى معانيه وأقدسها. إنه توحيد للبشر أمام خالقهم. هذه هي رمزية الإحرام، وهذا هو معناه.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل