إليكم هذه القصة..
قال خوَّات بن جبير «رضي الله عنه»: نزلنا مع رسول الله، مَرَّ الظهران (وادٍ شمال مكة). فخرجتُ من خيمتي فإذا أنا بنِسْوَةٍ (من أهل تلك المنطقة) يتحدثن فأعجبنني. فرجعت ولبِسْتُ حُلَّةً، وجئتُ فجلست معهنَّ. وخرج رسول الله من قُبَّتِه، فقال: أبا عبدالله ما يُجلسك معهن؟!
فلما رأيته اختلطتُ -أي ارتبكت- وقلت: يا رسول الله، جملٌ لي شَرَد، فأنا أبتغي له عِقالًا (أي كنت أطلب منهن قيدًا، لأربط به جملي إذا وجدته). فمضى نبي الله واتبعته، فألقى إليَّ رداءه ودخل بين شجر الأراك، فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يقطر من لحيته على صدره. فقال: أبا عبدالله، ما فعل جملك الشارد؟
ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: السلام عليك أبا عبدالله، ما فعلَ الجملُ الشارد؟
فلمَّا رأيت ذلك، تعجَّلتُ إلى المدينة، واجتنبتُ مسجدَ رسولِ الله، حياءً منه.
وفي يومٍ من الأيام، تحيَّنت ساعة خلوة المسجد، فأتيت فقمت أصلي. وخرج رسول الله من حُجْرته فجأةً فصلى ركعتين خفيفتين، وطوَّلتُ رجاء أن يذهب. فقال: طوّل أبا عبدالله ما شئت أنْ تُطوّل، فلستُ قائماً حتى تنصرف.
فقلت في نفسي: والله لأعتذرنَّ إلى رسول الله، ولأُبْرِئنَّ صدرَه، فلما قال: السلام عليك أبا عبدالله، ما فعل جملك الشارد؟ قلت: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلم (يقصد أنه لم يقترف فاحشة منذ أسلم)ـ فقال «صلى الله عليه وسلم»: رحمك الله ثلاثاً، ثم لم يَعُدْ يسأل.
وهنا بعض الوقفات للمربّين والقادة، مستلهمة من قصة خوّات بن جبير الأنصاري:
1. مع أن الرسول شاهده جالسًا مع النساء، ويتحدّث معهن، لكنه لم يعنّفه أو يشنّع عليه، وإنما اكتفى بسؤاله. بل لم يذكر قصته للصحابة، ولو لم يَرْوِ لنا خوّات -رضي الله عنه- هذه القصة لما عَلِمْنا بها.
2. حكمة الرسول في قبول العذر من المخطئ. فلم يشكك في عذر صاحبه، بالرغم من غرابته، ولم يدخل معه في جدالٍ ليثبت كذبه، بل اكتفى بجوابه، حتى لا يهدم الثقة بينهما.
3. ممازحة الرسول له، بقوله: «أبا عبدالله، ما فعل جملك الشارد؟». وهي أشبه ما تكون بما نسميها اليوم «طقطقة»، ولكنها بكل أدبٍ (يناديه بكنيته) وملاطفة (طوّل ما شئت أن تُطوّل)، وكأنه يقولها بنبرة المبتسم.
4. حرص النبي على السلوك القويم لأصحابه، فلم يترك السؤال حتى سمع الجواب الذي يطمئن له قلبه. وهذا لأن خوّات -رضي الله عنه- كانت له قصة مشهورة في شبابه قبل الإسلام مع ذاتِ النّحْيَين، حين احتال على امرأةٍ تبيع السَّمن، واعتدى عليها.
هذه بعض الوقفات، وما زلتُ أقول إنَّ سيرة المصطفى ملأى بالعِبَر والقصص الجميلة التي تستحق أن تُروى، لنتعلم من مدرسة النبوة.