كل شيء تنْعَم به في الحياة تَنَعم به، لا تتأنى باستطعام مبهجاته أو تذوق ملذاته أو الارتواء من مركباته، متع بصرك وأبهج حواسك، دع أذنك تنصت وتستمع، لا تصمها عن كل جميل، أو تجعله يعبر دون الاستمتاع به، لا تترك رائعا يمر من أمامك من مخلوقات الله التي خلقها مسخرة لك دون أن تتأمل جمالياتها، الشجر والزهر البحر والنهر السماء والغيم، الشمس والقمر، ضوضاء النهار وسكون الدجى، الأرض وثباتها وكل مجسم برز منها، الهواء بتقلباته، فالحر يتقى بمظلة، والبرد يحتمل بمعطف وقفاز، وحرية التنقل والاختيار لا يوازيها كنوز أو جاه.
تلك الأمور كنت أضعها دوما محل اهتمام، ولكنها أصبحت محل تقدير بعد أن زرت أثرا توارثته الأرض أجيالا وأجيالا منذ زمن بعيد، دخلت لطوابقه العليا فكانت في الجمال فريدا، وانتهينا إلى طابقه الأسفل فكان في الأسى مهيبا، يسدل على فكرك إحساسا تظنه أًعير لك ممن عاش في هذا المكان في ذلك العصر القديم.
سجون تجاورت متقابلة متخالفة كي لا يستطيع أسراؤها النظر لبعض، ومكان مظلم ممراته ضيقة وزنزاناته أشد ضيقا، أنارت طرقنا التكنولوجيا، ولكن في ذاك العصر كانت الشموع توزع الضوء بتقتير، تتخيل المساجين في طابق عميق تحت الأرض فوقهم طوابق لا يطل عليهم ضوء الشمس ومن نسمة هواء صحي عليل هم محرومون تمر عليهم الساعات كأيام مع مضي الأيام تبان بوضوح فقرات ظهورهم وتنتأ جلودهم، يتعايشون مع القوارض وبعضهم منها يموتون، غرف التمريض رغم المعاناة أعتقد كانت متنفسهم الوحيد أو عندما يساقون للتعذيب هناك فجوات يرون منها العالم الخارجي، ومنها يدخل بصيص من وهج نور، وهواء لطيف، اعتقد هذه الرحلة رغم ما سيلاقونه في نهايتها شيء من المواساة وربت على أكتافهم لطيف.
خرجنا من ذاك المكان الذي ليس فيه شيء من الجمال، وكلما صعدنا عتبة اقتربنا إلى الحياة خطوات، وبعد أن أطلقنا سراح أجسادنا من ذاك المكان تنفسنا حرية الكون واستقبلتنا أشعة الشمس وتغريدات الطيور وكل جميل، التفت إلى بوابة ذاك المكان الأثري وأغلقتها في تصور خيالي، وكأني أغلق غلاف قصة عنوانها «الأسير» لأسير أمامي وأكتب عنوان على سماء الحرية لقصة عنونتها «امتنان»، لتقرأ فيها ما ذكرته في الأسطر الأولى لهذا المقال..
* قضبان
هناك من يسجن نفسه خلف قضبان الجحود، ورغم أنه يملك مفاتيحها «الامتنان» يرفض أن يخرج، وإن خرج لوهلة إليها يعود.