لا حديث يعلو هذه الأيام فوق حديث الحر اللاهب الذي يجتاح العالم. فقد سجلت درجات الحرارة هذا الأسبوع أرقاما قياسية في معظم أنحاء العالم، جعلت منه الأسبوع الأشد حرارة منذ بدء السجلات المناخية، لدرجة بدا معها العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه وكأنه مرجل يغلي من شدة الحر. معروفة هي الأسباب المسؤولة عن هذا التطرف المناخي التي تعود في معظمها إلى الاحتباس الحراري، وما ينتج عنه من ظواهر مناخية متعددة من سيول وفيضانات وعواصف رملية وحرائق في مناطق مختلفة من العالم لم تشهدها من قبل. ما يعيشه العالم اليوم هو عصر التطرفات المناخية على غرار عصر التطرفات السياسية الذي أشار إليه المؤرخ الإنجليزي الراحل إريك هوبزباوم في رباعيته عن التاريخ الحديث للعالم، ولعل ما يقلق في الأمر أن مظاهر التطرف المناخي هذه ليست سوى مقدمات لمناخ أشد تطرفا.
إنك وأنت تستمع لنشرات الأخبار أو وسائل التواصل الاجتماعي أو كنت سائحا في أي مكان في العالم أو بقيت ساكنا في منزلك فالشعور واحد: حرارة شديدة أفسدت متعة السياحة صيفا وزالت الفوارق في درجات الحرارة بين مناطق حارة وأخرى باردة. فها هي مدن أوروبا وأمريكا تسجل أرقاما قياسية تجاوزت بها معدلات الحرارة في مواطنها الأصلية.
غير أن هذه الأجواء الساخنة ليست مقتصرة على الجانب المناخي بل إن لها ما يوازيها في عالم السياسة. انظر إلى خارطة العالم تجد بؤر اشتعال ساخنة تماما كما هو حال صيفها. فها هي الحرب في أوكرانيا وقد جاوزت عاما ونصف ولا يبدو في الأفق القريب نهاية قريبة لها. ولا يكاد يمر يوم دون حدوث توترات في بحر الصين الجنوبي، إما بسبب قضية تايوان وإفرازاتها بين الصين والولايات المتحدة، أو بسبب إطلاق كوريا الشمالية المتكرر لصواريخها النووية. ومن الشرق الأقصى إلى الأدنى ها هي الأراضي المحتلة تئن تحت وطأة مظاهرات ضد السلطة الفلسطينية ذاتها، وضد سلطات الاحتلال في سابقتين نوعيتين، ومازال صراع العسكر في السودان وقد دخل شهره الرابع من دون بوادر في الأفق لإنهائه ينذر بمخاطر جمة في المنطقة والإقليم.
أما في الواقع اليومي المعاش في مدننا العربية وفي بيئة صحراوية مشمسة معظم أوقات السنة فإن هذا ليس بالأمر المستغرب بل هذا هو النمط المناخي السائد لدينا. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ما هي السياسات العمرانية التي اتخذتها الجهات المعنية لجعل مدننا أقل حرارة وأعدل مناخا. تعتبر خاصية المشي (walkability) إحدى أهم معايير نجاح المدينة وأنسنتها. فكلما كثرت طرق المشاة في المدينة كانت المدينة أكثر إنسانية واجتماعية والعكس صحيح. غير أن المشي في المدن الحارة يتعذر تماما في غياب الظل وهنا يصبح توفير الظل ( shade ability) هو المعيار الأهم في عمران المدن الصحراوية. الممشى المظلل هو شريان المدينة وروحها النابضة، وبدون ممرات مشاة مظللة فقدت مدننا اليوم أهم عناصر وجودها. توفير الظل والمشي عبره في ممرات أو العيش فيه ضمن فراغات وميادين عامة مفتوحة في الهواء الطلق باختلاف وظائفها ومستخدميها هو ما يجعل المدينة مميزة للحياة الاجتماعية.
إن توفير ممرات مشاة مظللة ضمن نسيج المدينة من شأنه أن ينتج مدنا جديدة تستجيب لمبادئ الأنسنة والاستدامة وجودة الحياة في المدن وهي معايير أصبحت مطلبا ملحا في أي عملية تنمية عمرانية مستقبلية. ممرات المشاة سوف تجعل من المدينة مدينة أناس لا مدينة سيارات، مدينة أناس في تواصل اجتماعي فيما بينهم لا مدينة أفراد معزولين. ممرات المشاة المظللة هي تعبير عن خاصية النفادية التي تعتبر إحدى أهم معايير التصميم الحضري في بعض دول العالم.
أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل