قصيدة عنترة في الأسر للشاعر الصديق المبدع جاسم الصحيح هي من القصائد التي يمكن تصنيفها تحت مسمى (القصيدة/الرمز)، حيث هذا النوع من القصائد برز منذ أوائل الخمسينات في المشهد الشعري العربي، وأخذ يتمدد في الشعرية العربية، على يد كبار الشعراء الذين أنجزوا من خلالها تجارب شعرية متفردة كالشاعر خليل حاوي أو صلاح عبد الصبور أو أمل دنقل وأدونيس وجبرا إبراهيم جبرا وآخرين غيرهم. ولا ننسى في هذا الإطار تجربتي مجلة شعر والآداب بفضل ما قام به شعراؤها من تنظير وكتابة حول هذا النوع من القصيدة بالذات، تنهض شعرية هذه القصيدة على استدعاء الموروث أو التراث من خلال أهم رموزه الفكرية والدينية والإبداعية والسياسية، ومن ثم ربط هذا الاستدعاء بحمولات دلالية معبرة تجيء في إطار رسالة مشفرة تبثها القصيدة إلى متلقيها.
اللغة الشعرية هي الوسط الناقل الذي لا ينفك يعمل على إرساء شبكة من العلاقات اللغوية، تضطلع بمهمة إنتاج المعنى في حدود أسوار القصيدة، والمعنى هنا في مثل هذا النسق من القصائد يرتبط أساسا بوظيفة جمالية، من أهم سماتها أنها تتجاوز دلالات الرمز المستخدم في القصيدة، بما يبثه من رسائل تتوجه أساسا إلى نوعية معينة من المتلقين. هذا التجاوز يسميه بعض النقاد انزياحا (جان كوهين) أو انحراف الرسالة (غريماس)، أو لغة ضد اللغة (بارت)، وهكذا تتعدد التسميات. لكن الجميع يقر أن القصيدة مهما تحولت وظيفتها عبر العصور، تبقى دلالاتها تتجدد بتجدد الطاقة الإيحائية المبثوثة في جملها الشعرية، والتي تستعصي على التحديد أو التوطين ضمن واقع مدرك مسبقا، أو لغة مؤدلجة تتواطأ الواقع. وهي لا تحتاج في ذلك سوى إلى قراء معاصرين، يجددون دماءها، ويستجيبون لشروط تدفق إيحاءاتها في العروق، من هذا المنظور تتكون القصيدة من ستة مقاطع، تنقشع من خلال حركة النص منذ المقطع الأول للأخير الملامح التي تتكون منها شخصية الرمز عنترة، وعنترة هنا لم يحضر من خلال رمزية قيم الشجاعة والقوة فقط، وإنما يحضر أيضا من خلال رمزية الشعر نفسه:
وقصيدة مطعونة.. بقيت على الرمضاء
ينزف من جراحتها العويل
هذان الحضوران هما اللذان يشدان القصيدة إلى نفسها، وحركتهما هي حركة إنتاج المعنى، وما يستتبع ذلك من إعادة صياغة الرمز شعريا، وفق توجهات القصيدة والفضاء الذي تتشكل فيه.
وسنتتبع الآن خيط كلا الحضورين، والمعنى الناظم الذي يلتف حولهما، والسمات الفنية والبلاغية التي ترتبط بالعلاقة التي تجمع بينهما، كي تنجز القصيدة وظيفتها الدلالية والجمالية، وثمة مخاتلة تضعنا القصيدة أمامها، فهي تستدعي شخصية عنترة/الرمز من خلال صيغة المنادى (أأبا الفوارس..). لكنه استدعاء مراوغ، ففي حين نظن أنه سوف يتخلى عن كل ما يتعلق بحياته في الصحراء، من جراء هذا الاستدعاء، كي يعيش بيننا، أو في عصرنا كما تريده القصيدة وفق ما تشي به صيغة المنادى، نفاجأ تماما أن القصيدة بصوت الشاعر فيها، هي من تذهب إليه، وتستجلي آثاره في متاهة الصحراء العربية، لكن مرحلة العبور إلى هذه الآثار، وما تنتجه من أساطير حولها، ترى القصيدة أن اشتراطاته لا تتحقق، إلا باستدعاء التاريخ ليس بوصفه موروثا، وإنما بوصفه مرويات تحجب منظومة القيم التي تبثها تلك الشخصية/الرمز، وإذا ما استدعته من هذا المنظور كسرت طوقه، كي تتحرر هذه المنظومة بأساطيرها، من سلطة هذا التاريخ، وسلطة مروياته:
فليسقط التاريخ
تسقط كل أقلام الرواة
ولتسقط الكلمات
حين تلوكها بالزيف ألسنة الحياة.
لذلك القصيدة لا تسقط التاريخ من هذا المنظور، إلا كي تقيم معه علاقة مختلفة، ركناها المخيلة من جهة، والتصوف من جهة أخرى.