عبر آلاف السنين، تمكَّن الناس من صياغة أفكار وقيم، وباختبارها عمليا، عرفوا حدودها تقريبيا، من أجل رقي الإنسان وكي لا تستغل القيم، ولا يتطرف معتنقوها، فتفرغ من مضمونها وينقلب الإيجابي إلى سلبي. لهذا يتمثل بنو الإنسان بحكمة شائعة في مجتمعات الدنيا وهو «ما زاد عن حده ينقلب ضده».
اتفق البشر على حدود تقريبية لقيمة الشجاعة، وجرَّبوا فضائلها لكن إذا زادت سمّوها «تهورا» طبقا للتجربة أيضا. ويسهب الناس في مدح الكرم على أنها قيمة سامية، لكن إذا زادت عن حدها تتحول إلى «إسراف» ذميم. وجرَّبوا خصلة التواضع، وسارت الركبان بمديحها، لكن إذا زادت تتحول إلى «ضعف» ذليل.
الحضارة الغربية الراهنة انتهجت الديمقراطية، وحوَّلت حرية التعبير إلى عقيدة وحمتها بقوة البأس والسلاح واجتثاث كل مَن يعارضها أو عزله. لكن الغربيين أنفسهم قالوا إن حرية التعبير غير المسؤولة تناقض الحرية، وتمثل إهانة للناس وحدًّا من حرية الآخرين. بمعنى أن حرية التعبير حينما تتعدى حدودها تصبح عدوانا. وهذا جيد، لكن السيئ أن التسييس صادر هذه القيمة، وأخذت الأحزاب والمجموعات الأيديولوجية في الغرب تتاجر بحرية التعبير وتوظفها، وبذلك أصبحت حرية التعبير حقا حصريا للأوروبيين الغربيين وللأمريكيين، وليس من حق الآخرين أن يؤمنوا بغير الديمقراطية وليس لإيماناتهم حرية، ولا لمقدساتهم كرامة.
إذا أحرق محتج علم الشواذ في أوروبا، ستتداعى عليه مكائن العدوان لمحاكمته واجتثاثه انتصارا لكرامة الشواذ. وإذا أحرق أخرق عنصري، نسخة من القرآن، وأهان ملياري مسلم، فهذه حرية تعبير!
وبذلك تنقلب حرية التعبير من الدفاع عن الإنسان إلى درع للهمجية والعدوان وإهانة الناس.
الأرجح أن المسؤولين في السويد غير راضين عن حرق القرآن، فهم يتحلون بالوقار والمسؤولية، ولا بد أنهم لا يؤيدون هذه الأعمال الإرهابية. لكنهم لا يتحلون بالشجاعة، فهم يخشون شياطين المجموعات الليبرالية المتطرفة التي جعلت حرية التعبير بلا حدود لإنجاز مشروعها التدميري للإنسان والحضارة. فحرية التعبير لم تعُد مشروعا نورانيا، بل تحولت لهمجية متوحشة وعودة بالإنسان إلى عصر ما قبل التنوير والجامعات.
وتر
الإنسان الوحش..
لا تجمله المساحيق.. ولا الياقات..
ولا أضواء حفلات الكوكتيل..
إذ أنوار الفضائيات في أوجّ سطوعها..
لا تضيء قلب متوحش..
@malanzi3