روي في بعض كتب التاريخ، أن رجلًا دخل على أحد الخلفاء في مجلسه المهيب، مرتديًا عباءةً رثّة، فازدراه الخليفة، ولم يلتفت إليه حين تكلم. فقال الرجل للخليفة: «يا أمير المؤمنين، إنَّ العباءة لا تكلمك، إنّما يكلمك مَنْ فيها». فأقبل عليه الخليفة، واستمع له حتى انتهى من حديثه. ولما مضى الرجلُ، قال الخليفة: «ما رأيت رجلًا أحقرَ منه حين دخل، ولا أجلَّ منه حين خرج».
وجاء في السيرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان جالسًا مع أصحابه، فَمَرَّ رجلٌ من أمامهم، فسألهم النبيُّ: «ما تقولونَ في هذا الرَّجل؟». قالوا: هذا من أشرافِ النَّاسِ، هذا حريٌّ إنْ خَطبَ، أنْ يُزوَّج، وإنْ شَفعَ، أنْ يُشفَّعَ، وإنْ قالَ، أنْ يُسمعَ لقولِه.
ثمَّ مَرَّ رجلٌ آخرُ، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «ما تقولونَ في هذا؟». قالوا: واللَّهِ يا رسولَ اللهِ، هذا من فقراءِ المسلمين، هذا حريٌّ إنْ خَطبَ، لم يُنْكَح، وإنْ شَفعَ، لا يُشَفَّع، وإنْ قال، لا يُسْمَع لقولِه. فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لَهذا (أي الثاني) خيرٌ من مِلْءِ الأرضِ مِثلَ هذا (أي الأول).
وقد أكدَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى في حديثٍ آخر، قال فيه: «رُبَّ أشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بالأبْوابِ لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ».
إنَّ الحكم على الناس وتقييمهم بناءً على مظاهرهم فقط هو مظنَّة الخطأ في معظم الأحيان.
فلكل إنسان ثقافته وعاداته واختياراته الشخصية في اللبس والأكل وخلافه، وليس من الشرعِ ولا الأدب الحكمُ عليهم أو التهكمُ بهم، فقط لأنهم مختلفون عنا بأذواقهم واختياراتهم.
حتى على مستوى الممارسات البسيطة، فما قد تراه عيبًا اجتماعيًّا، ربما يراه غيرك أمرًا محمودًا أو طبيعيًّا يستمتع بفعله.
فالبعض قد يرى ممارسة المشي في المجمعات عيبًا، وجلوس كبار السن في المقاهي من خوارم المروءة، بل ويتندّر بهم، وربما كانوا خيرًا منه بعلمهم، وصلاحهم، وتفانيهم في تربية أبنائهم، وما قدَّموه للوطن من تضحيات.
بل إن بعضهم يعيش ازدواجية وتناقضًا عجيبًا، فتراه يمارس أمورًا طبيعية إذا سافر للخارج دون أي حرجٍ، وهذا من حقه بلا شك، لكنه -وهنا المشكلة- إذا عاد لبلده، انتقد وعاب على مَن يفعلها..!
نحن نعيش اليوم في عصرٍ.. السيادةُ فيه للقانون. فالقوانين والأنظمة هي التي تحكم الناس وتقيّم تصرّفاتهم إن كانت مخالِفة، وليست آراؤنا أو اختياراتنا أو أحكامنا الشخصية.
وكأني برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكبحُ جِماحَ الفضولِ عند أولئك الذين نصّبوا أنفسهم قضاةً على الناس، بقوله: «مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تركه ما لا يعنيه».
فمن الحكمة أن ينشغل الواحد منا بنفسه، ويدع أمورَ الخَلقِ للخالِق سبحانه، فالله لم يتعبَّدنا بالحكم عليهم، ولن يحاسبنا إن لم يكن لنا رأي في كل شخصٍ رأيناه.