- مقاربة الأعمال الروائية في ثقافتنا المحلية باعتبارها نصًّا ثقافيًّا وثيق الصلة بمفهومه الإنثروبولوجي بما يشتمل عليه هذا المفهوم من تصوُّرات وتقاليد وقِيَم ترتبط بالموقف من الكتابة والحياة والعالم والإنسان، تتطلب وفق ما أتصوَّره استثمارًا يذهب باتجاهين:
الأول لا ينظر إلى العمل من خلال التاريخ المُنجَز للروائي نفسه، أو من خلال تاريخ السياق الروائي في المملكة، فهذا النوع من المنظور أُشبع مقاربة وتحليلًا، وذهب به المتخصصون في النقد الروائي - الأكاديمي منه، وغير الأكاديمي - أي مذهب.
نقول هذا الكلام، على الرغم من الأهمية التي يكتسبها مثل هذا المنظور في الدراسات السردية، والإمكانات الكبيرة التي لا غِنى للباحث عنها، في تتبّع أدق التفاصيل في البناء الأسلوبي والفني للسرد، واستجلاء أهم السمات التي يتمتع بها أيُّ مُنجز روائي في علاقته بمؤلفه أولًا، وفي علاقته بالسياق الروائي ثانيًا..
أما الاتجاه الآخر:
وهو المنظور المنهجي الذي يمكن اقتراحه ضمن إطار القراءات النقدية، فذلك لاعتبارات تتعلق أساسًا بالمكوّن الأدبي بمختلف أجناسه، والجغرافي والتاريخي، وتقاليد كل منها داخل الثقافة في المملكة.
فحينما نرصد المؤلف من موقعه الذي يشيّد من خلاله بناءه السردي، ونرصد كذلك مواقع الشخصيات، والعلاقات القائمة بينها، وطريقة بناء خصائصها العامة، فإن الإجراء الذي نتوَّخاه، هو الكشف عن تعدّد وجهات النظر التي تتماثل تارة، وتتقاطع تارة أخرى في فضاء السرد.
- إن فرضية تعدُّد وجهات النظر في النظرية النقدية ليست بالجديدة، ولا هي بالمنهجية الواضحة التي يمكن تطبيقها تطبيقًا مدرسيًّا، وهناك طعون كثيرة على كون هذه الفرضية، لا تُقدِّم أو تؤخر، في سلّم التقييم العام للعمل الروائي.
فقد تكون رواية واحدة لا تشتمل سوى على وجهة نظر واحدة فقط، أفضل من رواية تتعدد فيها وجهات النظر.
- وبعيدًا عن الجدل الدائر حول جدوى تحليل الرواية من هذا المنظور أو من عدمه، وكذلك عن الكلام حول الصعوبة التي تعترض طريق استخلاص قوانين عامة تنتظم فيها أنواع وجهات النظر، فقد تكون الطريقة أو «الخطاطة» التي استخدمها الناقد الروسي بوريس أوسبنسكي في طرق مقاربته لوجهات النظر في السرد الروائي، هي الأكثر مقدرة على استيعاب ما نراه مناسبًا في مثل هذه المقاربات. وقد قسَّم هذه الطرق إلى أربعة مستويات هي كالتالي: المستوى الأيديولوجي، المستوى التعبيري «اللغوي»، المستوى الزماني والمكاني، والمستوى النفسي.
- يقدِّم لنا مقترح أوسبنسكي فرصة لاستثماره، ليس في الكشف عن كيفية عمل وجهات النظر في بقية الفنون كالرسم أو المسرح أو السينما فقط، كما استثمره هو في عدة أعمال ومقاربات حظيت باهتمامه. لكن فرصة الاستثمار التي نريد أن نطبّقها هنا، هي أنه من خلال هذه المستويات، يمكننا وضع إشكالات الرواية المحلية، في أبعادها المضمونية والشكلية، ضمن إشكالات الثقافة المحلية نفسها، وليس الاقتصار على حدود الأسئلة التي تخص الجنس الروائي نفسه فقط.
فتح الأبواب على مختلف الأسئلة التي تطرحها الثقافة المحلية على نفسها كأسئلة الهوية، والعلاقة مع الثقافات الأخرى، والموقف من الحياة والتاريخ والإنسان والنص، ومن ثم ربطها بأسئلة الرواية، هي في ظني معالجة، تُفضي بنا للوقوف على أنظمة التواصل التي تتحكّم في شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية والأدبية في مشهدنا المحلي.
فالروائي لا يسرد حكايته، إلا بعد أن يكون قد اختار طريقة في السرد من بين مجموعة كبيرة من الطرق المتاحة، وسواء وعى هو بذلك أم لم يعِ، فإنه بمجرد أن يختار فقد دخل ضمن نطاق أحد أنظمة التواصل، ووقع في شبكة قوانينها، التي تسيّره باتجاه متلقٍ ضمني أو صريح.
- إن مجرد الاختيار هو في تصوره الأولي موقف أيديولوجي يماثل تمامًا موقف أي مفكر أو سياسي، يختار إحدى القضايا التي يتبنّاها من بين كثير من القضايا التي تملأ فضاء الثقافة. ونحن بدورنا كنقاد نقع في الموقف الأيديولوجي ذاته، بمجرد ما نحاول أن نقرأ هذه الرواية أو تلك من المنظور نفسه، أي منظور الاختيار.
@MohammedAlHerz3