[email protected]
- في شهر يونيو الماضي بعث مسبار جيمس ويب الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا صورا لما يعتقد أنها أقدم مجرات الكون. وقد أصابت هذه الصور علماء الكون والفلك والفيزياء النظرية بالحيرة والذهول لسبب بسيط، وهو أن هذه المجرات التي تكونت فقط بعد مرور مئات الملايين من السنين من عمر الكون لم يكن من المتوقع تكونها في ذاك العمر السحيق من عمر الكون. إن وجود هذه المجرات يتعارض مع نظرية الانفجار الكبير التي يعتبرها علماء الكون حجر الزاوية في الكونيات. لقد كان وقع هذه الصور على المجتمع العلمي لعلماء الكونيات وقع الصاعقة لدرجة أنهم بدؤوا يعيدون حساباتهم في فرضياتهم من جديد.
- تكمن الصدمة في هذه الصور في أن هذه المجرات متطورة جدا حسب العمر الزمني للكون. إذ حسب نظرية الانفجار الكبير يستحيل وجود مثل هذه المجرات التي تأخذ وقتا طويلا جدا لتتكون. وللتذكير فقط فقد حدث الانفجار الكبير قبل 13.8 مليار سنة ثلاثة عشر مليارا وثمانية أعشار مليار سنة، وبحسب هذه الصور فإن الانفجار الكبير يجب أن يكون أقدم من هذا الزمن بكثير، يطرح هذا الاكتشاف كونه الأحدث في سلسلة الاكتشافات الكونية المتتالية بفضل التقدم الهائل في هندسة المناظير الفلكية أسئلة كثيرة في أصل الكون ومنشئه من وجهات نظر علمية وفلسفية ودينية أيضا.
- وكما تمت الإشارة إليه فعلى المستوى العلمي اعتبرت هذه الصور وكأنها زلزال هز نظرية الانفجار الكبير مما جعل بعض أكبر منظري الفيزياء الكونية الأمريكي ميشيو كاكو يقول وبصريح العبارة لقد كنا مخطئين.
- تذكر صور جيمس ويب هذه في ثوريتها والتأثير الذي أحدثته في علم الكون بمجموعة صور ما عرف بالحقل العميق الأزرق (deep blue) التي بعثها مسبار هابل سنة 1995. قبل مجموعة الصور تلك كان تصور الناس عن الكون مختلفا وبعده تغيرت فكرة الكون للأبد. لقد وسعت مجموعة الصور تلك من فكرة حجم الكون بأبعاد هندسية سحيقة انتقل معها الكون من طور إلى طور، تماما كما حدث مع مجموعة صور جيمس ويب الأخيرة هذه.
- عند الحديث عن الكون لا يقبل العلماء منهجا آخر لفهمه غير العلم وقد يكونون محقين في ذلك. غير أن العلم ذاته مهما بلغ من قوة ومن حجة ومن قدرة على الإقناع فإنه يبقى حائرا أمام أسئلة أبسط الناس. ولعل فكرة الانفجار العظيم التي وكأن المساس بها يعتبر مساسا بجوهر العلم هي أبسط مثال على هشاشة العلم. إن فكرة التفرد (singularity) التي تقوم عليها فكرة الانفجار الكبير يصعب تصور إعادة كل شيء إليها كما صرح بذلك أكثر من عالم كوني في أكثر من مناسبة وماذا كان قبل الانفجار العظيم وكيف كان المكان والزمان واطرح ما بدا لك من الأسئلة.
- إنه وبالقدر الذي يساعد العلم فيه البشرية على فهم الكون إلا أنه مطالب وخصوصا في مجال الكونيات بقدر من المساءلة المشروعة عن منهج علم الكونيات وأهدافه لكي يسهل تقبله واستساغته. لعل إحدى أهم مشاكل المنهج العلمي في الكونيات هي أنه ذو بعد أحادي في افتراضاته واستنتاجاته وبناء النظرية لا يقبل الشك أو المساءلة وهو ما يجعله عرضة للتغيير باستمرار مع كل ظهور حقائق علمية جديدة.
- عندما قدم اسحق نيوتن قوانين الجاذبية على عظم إنجازه ذاك قدمه في جو من الفهم الفكري الذي ينطوي على قدر كبير من الفلسفة بل إن كتابه ذاك كان كتابا في الفلسفة. هذه القطيعة للعلم مع بقية المجالات المعرفية هي ما يعانيه علم الكون في علاقته مع بقية العلوم.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل