- كلنا نستعمل التوابل في وجباتنا، إلا أن لديها رحلة وقصة قديمة مليئة بالأحداث، فبعضها اساطير وبعضها قصصا واقعية ملهمة، وكانت التوابل أحد أهم مصادر الثراء في العالم القديم ومصدراً رئيساً لاستمرار المدن القديمة وطرق «القوافل»، كما أن الأساطير كانت دواما تنسج حول تلك المادة النباتية العطرية ففي القرن الخامس قبل الميلاد، وصف المؤرخ اليوناني هيرودوتس من أن القرفة تنمو في بحيرة مليئة بمخلوقات أشباه الخفافيش، هذه القصة وأمثالها اخترعها تجارالتوابل وصدقها الاوروبين كوسيلة للإيهام بصعوبة تواجدها والوصول اليها، وأيضا من استغلال تلك الخرافات كوسيلة للاحتكار والاتجار.
- يروي لنا التاريخ ان طريق هذه التجارة القديمة كانت في الأزمنة القديمة تمر عبر شرق المملكة وموانئها حيث حضارة الجرهاء، وكانت تصدر البضائع المختلفة منها وإلى الفينيقيين في سورية ولبنان وفلسطين, ومنها موانئ تلك المناطق الى مدن البحر الأبيض المتوسط الأوروبية، كما ازدهرت بعد تلك الفترة الزمنية مدينة ثاج والتي تقع الى الغرب من الجبيل وأصبحت مدينة ذا ثراء كبير ومن أكبر مدن زمنها تضاهي في جمالها مدينة تدمر بالشام لوقعوها بطريق القوافل والتجارة القديمة، وكان بالإضافة ان تقدمنا والى زمن ما قبل النبوة كان سوق «المشقر» بهجر تأتيه البضائع من التوابل وغيرها من الهند وأنحاء آسيا لبيعها في هذا السوق الذي يعد أحد أهم أسواق العرب بزمنة يضاهي أسواق دومة المجندل وعكاظ. كما أيضا كانت جزيرة دارين أحد اهم المرافئ البحرية لهذا الطريق القديم من التجارة مع الهند وآسيا في زمن النبوة. ولعل الشعر العربي خلد ذاك الطريق القديم «يمرّون بالدهنا خفافا عيابهم ... ويرجعن من دارين بجر الحقائب». بعد ذاك الزمن أتت فترة انقطاع واضطرابات كما مع القرامطة وضعف بالخلافة العباسية أدت إلى تحول مسار البضائع وإلى طريق جديد، فقد استبدل ذاك الطريق البري بطريق بحري من الهند وعبر البحر الأحمر الى مصر الفاطمية, ومن ثم الى مدينة البندقية حيث كانت تجارته حكرا لها بصفقة عقدت مع تلك المدينة.
- سحرت البهارات والتوابل عقول الأوروبيين، وألهمت معرفتهم بالتوابل وتذوقهم لها أساطير وحكايا متعلقة بالفردوس المفقود، وبالشعوب والأماكن البعيدة عنهم الهمت التجار كما ألهمت ملوك أوروبا في سعيهم للوصول لمصادرة بالهند. فتم إرسال المستكشفين الممولين من تلك الممالك الأوروبية أمثال كريستوفر كولومبوس (اسبانيا) وفاسكو دا جاما (البرتغال) للبحث على طريق بحري يصل الى مصادر التوابل بالهند. وبالصدفة وبخطئ ملاحي عثر كولومبوس على قارة أمريكا. كما التف فاسكو دا جاما حول رأس الرجاء الصالح وأبحر إلى خليج غرب أفريقيا وعبر المحيط الهادي للوصول إلى الهند. لحقها بعد ذلك الدول الأوروبية الأخرى وليس فقط إلى الهند بل مبحرين مكتشفين طرقا بحرية أخرى منها الى إندونيسيا وماليزيا والصين ووصولا إلى ان اكتشفو استراليا ونيوزيلاندا ومجموعة من الجزر في المحيط. كما جاء من خلال سردنا كقارئين للتاريخ ان يبدو انه أعاد نفسه من احياء طرق القوافل القديمة المارة عبر شرق الجزيرة وشمالها للبضائع الهندية.
- فلا زال الأوروبيين رغم تقدم الزمان وممر قناة السويس الذي قصر مدة وصول البضائع الاسيوية الى الدول الاوربية مسحورين الى درجة الهوس بتلك التوابل الشرقية والبضائع الاسيوية باحثين لأقصر الطرق إليها، ومن تلك الأبعاد التاريخية لهذه العلاقة نستنبط بعض الحيثيات التي تقود إلى ما جاء حيال احياء ذاك المسار القديم للبضائع الهندية وتوابلها، من خلال قمة العشرين الأخيرة في الهند وقع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء «حفظه الله» مذكرة تفاهم بشأن مشروع إنشاء ممرٍ اقتصادي جديد يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، مع عدد من قادة الدول، وشارك في التوقيع كل من المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية، وجمهورية الهند, والإمارات العربية المتحدة, وجمهورية فرنسا، وجمهورية ألمانيا الاتحادية، وجمهورية إيطاليا، والاتحاد الأوروبي. ونتمنى بدورنا لقيادتنا الحكيمة كل توفيق.