هناك عاملان ساعدا أوروبا على الـوصول بفكرهم الـنقدي إلـى ما وصل إلـيه من مراجعة القيم المؤسسة لمجتمعاتهم منذ عصر الأنوار ، حتى وصلوا إلى تفكيك المركزية الغربية ضمن خطابات ما بعد الحداثة والتي من أهم نظرياتها نظرية ما بعد الاستعمار، والـعاملان يتعلـق أحدهما بالجانب الابستمولوجي المعرفي والآخر بالجانب التاريخي الاجتماعي والسياسي .
وإذا كان الأول انطلق مع كانط في تأسيسه للحظة النقدية وما تبعه من تأسيس على يد بقية الفلاسفة وصولا عند ماركس ، فإن العامل الآخر يتعلق بالحربين الـعالميتين ، فالحدثين من الأهمية الكبيرة الـذي نزل كالصاعقة علـى المجتمع الأوروبي ، لـم يمهل الأوروبيين ليستمتعوا بمعالم الحضارة الـتي بدأت تنعكس علـى مجتمعاتهم ، ولـولا - وهنا أشير إلـى أهمية العامل الأول- أن هـناك أرضية من الـتفكير الـنقدي الـذي سبق هـذين الحدثين قرابة الـقرنين ، وهو تفكير تراكمت مفاهيمه وأفكاره وفلاسفته في المسارات المتشعبة للمعرفة ، ولـولا هـذه الأرضية الصلبة واليقيضة للفكر لذهب المجتمع الأوروبي كله ضحية هذين الحدثين دون أن تقوم لـه قائمة مرة أخرى من هـول الحرب الـتي خاضها، لـكن رغم ذلـك أصابته لعنة الأمراض النفسية لكنه سرعان ما عالجها بالفكر النقدي من جهة وبالأدب والإبداع من جهة أخرى، وهكذا استطاع أن يعود إلـى مسارالحضارة ويعمل على مساره التاريخي لحظة دخوله الحداثة.
- الـتطور الـلاحق لـلـفكر الـنقدي الـغربي أعاد إلـ ى الأذهان مرحلـة الاستعمار الأوروبي ، بعدما انقضت فترتها التاريخية لتقدم نظرية ما بعد الاستعمار كشفا عن آلـية الـسيطرة والتحكم التي مارسها المستعمر الحاكم من خلال آدابه وعلومه الإنسانية على الشعوب الخاضعة له .
- لكن الملفت للنظر أن جل مؤسسي هذه الـنظرية هـم من الـبلـدان الـتي كانت خاضعة للمستعمر نفسه بداية عند أدوارد سعيد ولـيس نهاية عند إعجاز أحمد وغياتري سبيفاك، وهنا يأتي السؤال الملتبس الـذي يفتح الباب واسعاً علـى سوء الـتأويل لـدى المتلقي لـلـثقافة الـغربية: هـل ثمة في الأمر صدفة أن يتصدى فلاسفة ومفكرون من الـبلـدان التي استعمرها الـغرب كي يكشفوا عن الهيمنة الفكرية والأدبية على مجتمعاتهم بعدما انقضت مرحلة الاستعمار الجغرافي؟ أليس ثمة دوافع خفية وعميقة لا واعية للانتقام ولو عن طريق الـفكر؟.. للوهلة الأولـى السؤال قد يكون مشروعاً وإجابته تكمن في المسار الـتاريخي لـلـنظرية وعلاقة تأسيسها بحياة مفكريها وظروف نشأتهم ، وهذا المسار في الـبحث يثري الـنظرية على العموم .
- لـكن الالـتباس أين يقع؟ لا يقع عند الـباحثين المشتغلـين بالـنظرية ذاتها، لكنه يقع عند المتلقين لمقولاتها
ونتائجها المتأثرين بمفاهيمها وأفكارها .
دعوني أوضح ما أقصده على النحو الـتالـي : الـصورة الـنمطية عن فكرة الهيمنة والسيطرة التي ركبتها نظرية ما بعد الاستعمار عن الغرب تعطي انطباعا عند الكثيرين الذين يعيشون في بلدانهم بعيدا عن مركز الحضارة من مختلف الـشعوب أن هـذه الـصورة النمطية من الـقوة والحضور لا زالـت تعمل عملها بحيث أن فكرة المؤامرة باعتبارها فكرة تعكس هذه القوة تسري في العقول مثل النار فيالهشيم ، وبالتالي كل ما يصدر من الغرب سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الديني يؤول على أنه ينتمي إلـى مؤامرة كبرى، لـكن عند هذه النقطة بالـذات لا يجب أن نغفل الحقائق المتصلة بالتطور الـذي أوصل نظرية ما بعد الاستعمار إلى ما أوصلها إلـيه ، فميشيل فوكو المفكر والمؤرخ الفرنسي هو أحد المؤسسين لمفاهيم هذه النظرية على يد إدوارد سعيد ، بالإضافة إلى فرانز فانون ولا ننسي مفاهيم جاك دريدا .. ألخ .
بالـتالـي الـصورة الـنمطية الـتي كونتها الـنظرية عن الـغرب شارك في صناعتها الفكر النقدي الغربي ، وهذا يكفي لـلـقول أن المفاهيم والمقولات لـلـنظرية لا تحمل الـقيمة المطلـقة لـلـصورة المتشكلـة عن المجتمعات لأنه بكل بساطة لا توجد قيمة مطلـقة للحكم على أي صورة تتشكل عن المرء أو المجتمع .