- يعتبر كتاب «نقد العقل المحض» للفيلسوف الألماني إيمانويل كانت أهم كتاب في الفلسفة منذ كتاب الجمهورية لأفلاطون. ومن عنوانه فقد أنزل الكتاب الفلسفة من عليائها وأبراجها العاجية لتلامس واقع الناس في حياتهم وأفكارهم.
- يؤكد الكتاب على دور التجربة أيا كانت في صياغة الفكر والعقل ومايترتب عليها من رؤيا للفرد تجاه عالمه. غير أن التجرية وحدها لا تكفي، إذ يقدم الكتاب أيضا مفهوم «الترانسدنتال» والذي يعني تجاوز الخبرة لما يصوره لها العقل، ويربط كل ذلك بمفهومي الزمان والمكان.
- اليوم، يبدو العالم لراصده وكأن العلم قد حل محل العقل. ففي خضم التحولات العميقة التي مر بها العالم منذ الثورة الصناعية انزوت الفلسفة إلى الظل مفسحة المجال للعلم الذي هيمن على مفاصل الحضارة الانسانية، لقد أصبح العلم، لا الفلسفة، هو مرجعية الإنسان المعاصر في كل صغيرة وكبيرة. أنظر إلى علم الفلك وحركة الكواكب والنجوم والمجرات، وانظر إلى تركيب الذرة وما بينهما. بفضل العلم طبب الأنسان نفسه، وبواسطة العلم تمكن الانسان من اتقاء غائلة الحر وزمهرير البرد عندما بنى عمائره ومدنه، وبالعلم تمكن الأنسان من الغوص في اعماق المحيط والهبوط على سطح القمر.
- العلم بمعناه الصافي وأهدافه الأخلاقية إنجاز عظيم للبشرية، العلم باعتباره اكتشاف للحقيقة والعمل بها وفق منظومة أخلاقية كان ركيزة اساسية في معظم الثقافات عبر التاريخ، والقرآن الكريم والثقافة العربية الإسلامية مليئة بالآيات والقصص والمواعظ التي تؤكد على اهمية العلم وقيمه الأخلاقية.
- غير أن العلم عندما تجرد من اخلاقياته أصاب الشرية في مقتل. فعوضا عن أن تسهم منجزات العلم في إسعاد الانسان حدث العكس. ما حدث هو أن الإنسان «الغربي تحديدا» عندما تمكن من ناصية العلم، أو هكذا بدا له، ظن أنه فوق الأخلاق. انظر فقط إلى تاريخ القرن العشرين تجده قرن الحروب والصراعات التي أخذت أشكالا غير مسبوقة في عنفها وفي بعدها عن الأخلاق.
- إن ما يشهده العالم اليوم من تغيرات مناخية من تصحر ومن حرائق وسيول عارمة ودرجات حرارة غير مسبوقة وتنمية حضرية شرهة ما هو إلا نتيجة مباشرة لإساءة استخدام العلم بمسميات شتى.
- وأخيرا وليس آخرا، ها هو الذكاء الاصطناعي الذي يطل على العالم اليوم برأسه اليوم كنموذج في هذا المسلسل الذي لا ينتهي والذي سيفتح آفاقا جديدة غير مسبوقة في الابتعاد عن المعاني الأخلاقية للعلم وعن مركزية الانسان في الكون وأحقية استخلافه في الأرض، الإنسان فردا كان أم جماعة، كائن روحي، العلم لا يفسر الحياه والغازها وقد لا يطلب منه ذلك، إنه فقط يمكن الإنسان من أن يكيف مقدرات الطبيعة لصالحه وفق مبادئ أخلاقية تؤكد على قيمة الإنسان والحياة على ظهر هذا الكوكب الفريد من نوعه كما يؤكد علماء الفيزياء النظرية كلما ازدادوا علما في اكتشافاتهم الكونية.
- علم بلا فلسفة ولا أخلاقيات مرتبطة به يحول الانسان الى مجرد رقم بين مليارات الارقام في غياب الاخلاق وفلسفتها، يجد العالم نفسه اليوم بحاجة الى بوصلة اخلاقية تعيد العلم إلى جادة صوابه التي حاد عنها. هنا يأتي دور الفلسفة والأخلاقيات.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الأمام عبدالرحمن بن فيصل