n لندرتها، وعبر القرون، جعل أهل مناطق الجنوب الغربي المطيرة (التربة) مدلول تواجدهم، وبقاءهم، وخيرهم، ونعمتهم. (التربة) هي الأرض الزراعية.(التربة) الزراعية كانت عندهم بمثابة الكرامة والعرض. لا بيع ولا تخلّي عنها، ذكرت قصته في كتابي: [زمان الصمت] مات فقيرا مريضا رغم امتلاكه أراضي الزراعية عديدة. لم يكن لديه أولاد يرثونه. لكن كان لديه بنات. مات فقيرا مريضا حتى يجنب أسباطه شتيمة وعيب بيعها.
n طقوس اجتماعية سادت حول أهمية (التربة)، فرضت واجب الدفاع عنها والاحتفاظ بها جيلا بعد آخر، الموت في سبيل الحفاظ عليها شرف وكرامة. تركها بدون عناية مسبّة وقلة مرجلة. ترتب على أهمية (التربة) عادات وتقاليد سادت، جميعها تعظّم أن تظل دون تفتيت، أوجدوا مخارج تبيح الاحتفاظ بـ(تربة) الأرض الزراعية دون تفتيت بفعل نظام الإرث الإسلامي الذي يحترمون. يطبقونه بذكاء يناسب واقع حياتهم.
n الأرض الزراعية عندهم هي (التربة) لا أرض زراعية بدونها يطلقون عليها اسم (المدر)، تعظيما لشأنها. يأخذ منهم (المدر) لون بشرتهم الحنطية الداكنة التي تكتسبها من تعرضها لأشعة الشمس أثناء خدمتها. (المدر) مدلول خير ونعمة وشرف وكرامة. خدمة (المدر) عنوان يرفع مقام الرجال وسمعتهم. كنتيجة أصبح (المدر) من مسؤولية الرجال وليس النساء. ولأن النساء شرفهم عملوا على تأنيث (المدر). يقولون: (المدرة). كمثال: (مدرة المراض)، (مدرة حجلة). وهكذا لكل أرض زراعية اسما. كأنها كائن حي بينهم، وهي كذلك.
n تختلف (مدرة) كل أرض زراعية عن الأخرى وفقا لجودة خدمتها ومكونات ما تحتويه من عوامل الحياة التي يضيفونها لتصبح حية معطاءة بشكل أفضل، هذا (المدر) النادر يختلف في العطاء والمواصفات، هذا الاختلاف يأتي من قوة الاهتمام والخدمة، وتجدهم يقولون أشعارا تمجدها في مناسباتهم الاجتماعية.
n حضارة الرمق الأخير كانت تقوم على محور ماء المطر، لكن بقاء الناس يقوم على محور بقاء (المدر). يختلف عندهم المدر عن (التراب). (المدر) حي يحتضن الحياة. (التراب) حبيبات ميتة لا حياة فيها. بشكل أدق لا تحتضن الحياة. وصل بهم أمر التفريق بين (المدر) و(التراب) حد قولهم: (تراب في وجه العدو). جعلوا (المدر) أوعية تحمل مياه المطر، وتحمل أيضا قوت يومهم. إن معرفة أسرار جعل (التراب) (مدر حي) مهارة علمية تم اكتسابها عبر القرون.
n في حضارة الرمق الأخير أن تكون حيا فهذا يعني أن كل شيء حولك حيا هو الآخر. مجّدوا (المدر) فسادت علوم خدمته. كنتيجة كانت حضارة الحجر، حيث تم تسخيره لبناء المدرجات على سفوح الجبال وبطون الأودية، لتصبح أوعية حاملة حافظة لهذا (لمدر) النادر والثمين.
n جعلوا الحجر حيا بوظيفة ومشاعر عطاء، لا يحس بأهميته إلا من عرف قيمة دور الحجر في بناء المدرجات الكنتورية المحمولة على سفوح الجبال. أطباق مرصوصة بعضها فوق بعض، تعزف لحن البقاء، وهمّة البشر، وحكمة عقولهم في تعظيم عوامل بقاءهم في أقسى وأصعب الظروف والتحديات.
n جعلوا حياتهم وقفا للحفاظ على (المدر) واستدامته، غريزة البقاء تدير عقولهم وتوجهها لخدمة بيئتهم وتعظيم منافعها.
n أصبح دوري كعالم تفسير ما يمارسون، وليس الاعتراض عليه ،أو استبعاده، أو نعته بالتخلف، نحن في بيئات جافة أصبحت ممارسات أهلها أساس علوم كثيرة دون علمنا، تخلينا جهلا عن تراث مهاري علمي يمثل كنزا معرفيا لم نحسن قراءة جدواه، رغم أهميته في ظروف ندرة المياه. نعم أصبحنا في وضع كمن ينخش عينه بيده. ويستمر الحديث عن المطر وتحدياته بعنوان آخر.
@DrAlghamdiMH