[email protected]
- فأما المسجد فهو الجامع الأموي في قرطبة، وأما الكنيسة فهي كنيسة أياصوفيا في إسطنبول، هذان البناءان (المعبدان) قد سطرا تاريخ عمارة وثقافة وحضارة، انهما من عجائب التاريخ وديناميكية بناء الحضارات.
- قاعة الصلاة في الجامع الأموي في قرطبة هي الأكبرمن نوعها في العالم، والأكثر أعمدة، وهي في الوقت نفسه الأكثر ألفة وحميمية في ارتباط الأنسان بعمارته وشعيرته، ومع الأبعاد الاستثنائية لهذه القاعه يختفي حجم القاعه ويتجزأ الفراغ فيها الى فراغات أصغر فأصغر تكاد أن تصل الى أن يكون لكل فرد (كبسولته الفراغية) إن صح التعبير، هذه وظيفة المسجد وهذا دور العمارة، تعين العبد أن يؤدي شعيرته على أكمل وجه، هذا «بناء أفقي» وبالرغم من تعاقب توسعاته عبر القرون، الا أن البناء بقي محافظاً على شكله، وكأنه قد بني في زمن واحد، بل في لحظة واحدة، وهذا مكمن ابداع آخر في عمارة هذا المسجد الاستثنائي.
- تمثل كنيسة أيا صوفيا ،وهي تعني نور الحكمة، محطة بالغة الاهمية في تاريخ العمارة، انها بقبتها البالغ ارتفاعها خمسة وخمسون متراً وبقطر يتجاوز الثلاثين متراً تمثل سابقة في تاريخ العمارة، وفي مقابل الافقية المفرطة في جامع بني امية فان الفراغ هنا مفرط في عموديته الى درجة يجعل الانسان ينتقل الى عالم سماوي بالكامل، وعلى عكس الفردية والحميمية التي يشعر بها المصلي في المسجد فلا مكان للفردية في اياصوفيا فالكل هنا أقزام أمام سلطة الكنيسة، هكذا اختلف البناءان، عمارةً وتاثيراً على قاصديهما، وانه لفرق شاسع في العمارة، وفي الأصول الدينية والثقافية والاجتماعية التي انتجتهما.
- ومع هذه الأختلافات العظيمة بين البنائين تشاء الأقدار ان تجمع بينهما لأسباب تاريخية في الاساس، فبعد سقوط قرطبة في أيدي الأسبان في مايعرف بحركة «الاستعادة»، تم بناء كنيسة داخل المسجد وسمي المسجد بعدها بكنيسة قرطبة، وتم ايضا اعادة بناء منارته لتصبح برج كنيسة قيماً حافظ بقية المسجد على شكله.
- في المقابل فان أياصوفيا وباستثناء بناء منبر (والمنبر خصوصاً في العمارة العثمانية هو من عناصر الاثاث وليس عنصراً معمارياً ثابتاً) واستحداث عتبه بجواره وهي عادة عثمانية، واستقبال القبلة، وأعمال خط الثلث وهي الاجمل على الاطلاق، فقد تم ابقاء الكنيسة على اصلها، بل ان محمد الفاتح وبعد فتحه التاريخي للقسطنطينية كما كانت تسمى، ذهب الى الكنيسة وأمر بعدم المساس بها والحفاظ عليها، لقد انتشل الفتح الاسلامي الكنيسة من كوم الاهمال الذي عانته بعد الحملة الصليبية الرابعة، لقد اعاد الفتح الاسلامي للكنيسة مجدها الغابر، هكذا تعبر العمارة سياسياً عن نفسها في ضوء احداث العالم اليوم، انظر كيف تعاملت الثقافة الاسلامية مع الكنيسة واحترامها لها مقابل زرع كنيسة في جوف المسجد .
- تأتي مناسبة الكتابة عن هذين البنائين التاريخيين في ضوء مايشهده العالم والمنطقة الآن من احداث ساخنة، إن الصراع المستعر الآن ليس بين الأصحاب الشرعيين لأرض تم احتلالها وبين دولة مدججة بالسلاح، بل انه صراع بين شرق وغرب .
- صِدام الحضارات لصموئيل هانتنغتون مفهوم غربي وهو وان غاب عن المشهد السياسي قرابة عقدين من الزمن، الا انه عاد يطل براسه من جديد في مشهد الاحداث المتفجرة في شرقنا، غير ان مايبعث على الأمل ان المسيرات المناهضة للغرب في عقر داره كفيلة بتصحيح المشهد برمته.
* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل