دائما ما أواجه بالسؤال : لماذا اخترت الاشتغال بالنقد كونك شاعرا وكأنما سمة التعارض لا دمة لا فكاك منها . بالنسبة لي لم يكن اختيارا ، كانت اللحظة تتطلب الالتفات إلى الخطاب النقدي بوصفه – كما كنت أنظر إليه في لحظتها قبل عقدين من الزمن – الكاشف عن جماليات النص الحديث وتعدد أوجه شاعريته ، والكاشف عن التطور الكبير الذي وصلت إليه العلوم الإنسانية في مسألة الشعر والشاعرية والنص والعالم .
ناهيك أيضا عن مسألة في غاية الأهمية، على الأقل بالنسبة لي كوني شاعرا لا يملك من أدوات التعبير اللغوية سوى اللغة الأم العربية ، وهي ترجمة شعراء العالم الذين عكف على ترجمتهم أغلب شعراء الحداثة المعروفون ، وكانت معضلة تلقي الترجمة في حينها تلقي بظلالها على الذائقة التي كانت تواجه صعوبة في تلمس جماليات النص المترجم.
انطلاقا من هذه الملاحظات التي ذكرتها كان هو دافعي للاشتغال النقدي على اعتبار أنه سيساعدني كثيرا لفهم شعرية النص الحديث، بالخصوص كانت أمامي تجارب شعرية حديثة من الأصدقاء، وكانت الحاجة ملحة للتواصل معهم بعمق من خلال نصوصهم . لكن رغم ذلك كنت حذرا إلى الانجرار وراء التنظير الأكاديمي النقدي الميكانيكي الجامد.
وعندما أسئل عن المدارس النقدية في الغرب، وعن تأثري بها في سبيل الحصول على تجربة نقدية متفردة .
في واقع الأمر لم يكن اطلاعي كافيا على المدارس النقدية الغربية؛ كي تكون لي تجربة نقدية متفردة ، فأنا أظن أن مزاجية الشاعر تحكم تجربتي النقدية، وما أعنيه هو أنني لا أكبت انفعالاتي أمام أي نص جميل وأتفاعل معه ثم أكتب عنه، وهذا الأسلوب في تلقي النصوص الإبداعية لا يعرف طريقه للناقد المحترف، وهنا الفرق الذي أراه بين الاثنين. وبالطبع أنا أنتصر للشاعر الناقد وهو الأقدر في ظني من جهة فهم وتفسير وتطوير النص من الداخل ، بينما الناقد المحترف هو الأقدر من جهة فهم وتفسير النص من الخارج، بمعنى أن النصوص الشعرية تتطور وفق سياقات ثقافية أدبية اجتماعية ترتبط بصاحب التجربة في علاقته بالشعراء الآخرين بوصفه مؤثرا ومتأثرا، وهذا التطور هو الذي يقوم به الشاعر وعى ذلك أو لا يملك أدوات الوعي . لكن الشاعر الناقد في ظني يملك هذه الأدوات ، ويملك اللغة المنطقية التي يستطيع من خلالها تفسير هذا التطور ,وهذا هو ما أعنيه من الداخل . بينما الناقد المحترف ، في جانب من اشتغالاته يقع في ظني في فخ الاندفاع وراء النظرية بحيث يرى النصوص كظواهر اجتماعية أو ثقافية – طبعا هناك النظريات ما الثقافية التي تهتم بهذه الرؤية – أو ينشغل باكتشاف حدود وآفاق النظرية دون اعتبار لما يطرحه النص من جماليات ترتبط بأسباب النص وليس بأسباب النظرية . وهناك جانب آخر عند الناقد المحترف وهو الجانب الذي أقدره كثيرا وأحترم الجهد الذي يبذله، والذي يمكن تسميته روح المؤرخ الذي يضع النصوص والتجارب في سياقها التاريخي , ومن ثم يفتح لنا أفقا آخر للفهم والتفسير, ولا أريد أن أضع أمثلة هنا حتى لا أطيل.