ذلك هو الوصف لعقل ساد في مناطقنا المطيرة، جنوب غرب المملكة. حرك ووجه كل طاقات ناسها لتحقيق وظيفة عقلهم الأساسية. إنها تفعيل غريزة البقاء بإمكانات البيئة المتاحة في ظل ندرة الماء.
الأمة التي تعمل من أجل البقاء لا تخسر حياتها بسبب ظروف التحدي البيئي. نجاح البقاء مكانة ملهمة لا تتحقق في غياب المهارات البيئية المحلية لأي أمّة. مهارات تجعلها خلية إنتاجية أسرية معتمدة على نفسها وإمكانات البيئة ومهارات أهلها. تفي بمتطلبات عيش يحقق البقاء. لا تعتمد على أحد.
الخسارة أن تفقد الأمة نفسها ونسلها بيدها. تتجاهل ما يحقق غريزة بقائها الطبيعية. الأمة التي تواجه الفناء البيئي كتحدي وتنتصر، هي أمة تملك مقومات الاستدامة. فعلناها كعرب في جنوب غرب المملكة منذ أكثر من الفي عام. علينا أن نتساءل لماذا لم ننقرض في ظل شح المياه وندرتها؟
بين أيدينا بناء المدرجات الأسطوري خير شاهد. مبعث للحكمة والتأمل. بنى حضارة اسميتها: حضارة الرمق الأخير. حضارة إنسانية تحب الحياة سلما ومنفعة، مرتبطة بإمكانات البيئة الخاصة والمحدودة. تعمل نقيض حضارة اليوم، وجهت وظيفة عقلها الأساسية إلى صنع النار والبارود للحفاظ على البقاء. حولوا هاجس البقاء إلى صناعات حروب وإبادة، في ظل غناهم البيئي الذي يعتمد على وفرة الماء والتربة الزراعية. الحروب بينهم وعلى غيرهم شغلهم الشاغل. كل طرف يوجه عقله حسب توجهاته المكتسبة من هواجس مريضة تتم تغذيتها للسيطرة. توجهات تحمل الكثير من الأخطاء والمغالطات.
الارتقاء بالحاجات غير الأساسية للبشر يكون دوما على حساب خسارة البيئة. نتاجها يكتب نهايتها ونهاية الحياة على الأرض في نهاية المطاف.
منظومة بناء المدرجات لم تأت من فراغ أو بشكل عشوائي. إنها نتاج عقل واجه تحديات البقاء القاتلة. فكان أن بنى وشيد فكرا استثنائيا في نفوس أهله لمواجهة خطر الانقراض. هذا الفكر الناجح والناضج قاد الأجيال المتتالية للبحث عن حل ينقذ من الجوع والعطش. فكانت المدرجات خير وسيلة متاحة من البيئة. ابتكرتها غريزة البقاء الساكنة في العقل للإنقاذ. جعلتها في متناول كل الأجيال ومدى الحياة. هكذا جاءت المدرجات وسيلة دفاعية فاعلة للاستدامة. وظفوا الحجر لصيد الماء وحفظ المدر الزراعي. فأصبحت حضارة الحجر سائدة في مناطقنا الجبلية المطيرة، وستظل ما بقي حجرها يؤدي وظيفته كعنوان للبقاء واستدامته.
المدرجات وسيلة إنسانية دائمة العطاء. ستظل كذلك ما بقي العقل الملحمي للإنسان يعمل من أجل البقاء أولا وأخيرا. المدرجات عبر تاريخها تحمل نفس الهدف والوظيفة والغاية. المدرجات انجازنا الحضاري لاستثمار مياه الأمطار الشحيحة. أدعو أن يكون خالدا ليبقى الإنسان العربي في هذا الخلود بجانبه.
المدرجات نموذج ناجح لملحمة البقاء والاستدامة العربية. الماء والغذاء عنوان البقاء السرمدي الذي طرز سفوح جبالنا حدائق معلقة تحصد المطر والثمر. زوال هذه المدرجات زوال للإنسان نفسه من بيئتها.
كيف يضيع حوض الماء من بين أيدينا؟ كيف يضيع مهد الغذاء ويفنى؟ لماذا ونحن بحاجة إلى وظيفته؟ عندما اتعمق في مثل هذه الاسئلة أصاب بحالة رعب تجعلني فريسة سهلة لقلق مشروع يعتري تفكيري. حالة انتفاضة ذات نفع وجدوى. إذا انكسر حوض الماء وضاع مهد الغذاء فهل يكون هناك حياة؟ أجيبوا. ويستمر الحديث بعنوان آخر.
@DrAlghamdiMH