- وما ذكرناه أعلاه مجمل، ويمكننا في هذا المقام أن نفصل بعضا منه، ولكن دعونا أولا نفهم معنى هذه التاءات الثلاث «التغاضي والتغافل والتسامح»، وإن كانت متقاربة على وجه العموم، ولكن هناك اختلاف وفروقات دقيقة سنعرج عليها سريعا، فأما التغافل فهو استراتيجية التجاهل، والتجاوز عن الأمور السلبية والمزعجة والأخطاء، وهو أيضا غض الطرف عن الهفوات، وترفع عن الصغائر من الزلات، فقد جاء في بعض كتب التراجم والسير: «أن محمد بن عبد الله الخزاعي، قال سمعت عثمان بن زائدة يقول: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، قال: فحدثت به أحمد بن حنبل فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل».
أضف إلى ذلك أن التغافل هو في أمر شككت في حدوث الخطأ فيه، فأنت تظن ظنا، وأما مرحلة التغاضي، فأنت تعلم يقينا أن الخطأ أو زلال قد وقع، ولكنك تغاضيت وترفعت عنه أو كما يصفه البعض «التغابي» كأن شيئا لم يحدث، وكأنك لم تره، وما يدل على ذلك قول الشاعر أبو تمام : ليس الغبي بسيدٍ في قومه... لكن سيد قومه المتغابي، وهاتان الصفتان «التغافل والتغاضي»، لا بد فيهما من خصلة مشتركة، وهي لين الجانب، والتي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في وصف سيد الخلق والخُلق عليه الصلاة والسلام: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» أي سهلت أخلاقك لهم، وكثر احتمالك، وكنت رفيق بهم. والتمسك بهاتين الصفتين من أجل تجنب الصراعات الجانبية، والبعد عن شرخ العلاقات الخاصة والعامة.
-هنا نأتي إلى المرحلة الأعلى والأرقى على الإطلاق لهذه الصفات الثلاث، وهي «التسامح» من أجل السلام والهدوء الداخلي، والاستمتاع بالراحة النفسية، وهي مرحلة تأتي بعد التغافل والتغاضي. والشواهد والقصص على هذه المنزلة كثيرة، ولكن من وأوضحها قول يوسف عليه الصلاة والسلام: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، إن كل ما أسلفناه هو كلام حسن وصفات رائعة، ولكن المشكلة تكمن في التطبيق لا التنظير! ومن وجهة نظري المتواضعة أعتقد أن الصفات الثلاث التي ذكرناها هي في الأصل فطرية وجبلة موجودة ومتأصلة لدى البعض من البشر، شأنها كشأن الموهبة التي تولد مع الطفل، وهذه الفئة من الناس هي سهلة عليهم وميسرة. وأما الفئة الباقية، فهم يحتاجون إلى مجاهدة أكبر، ومحاولات أكثر، وصراع مع النفس أقوى. ولا يعني ذلك أن يكون عذرا للتهرب والتملص من محاولة التحلي بهذه الصفات على قدر المستطاع، وكما قيل: «ما لا يدرك كله، لا يترك جله» أي لابد من المحاولة مرة بعد أخرى.
- النقطة ألأخرى الهامة جدا، أن لا نخلط بين التحلي بهذه الصفات الراقية وبين الضعف أو الخوف من المواجهة أو عدم القدرة على حل المشكلات، فالقاعدة العامة تقول: لكل مقام مقال، فالتغافل والتغاضي في مواضع هو خير من الكلام، وفي مواضع أخرى يكفي القول عن الفعل! ومعلوم أن لكل حالة لبوسها.
@abdullaghannam