- عمارة المجتمعات الزراعية عمارة تتوفر فيها كل معايير النجاح. انها عمارة خضراء، وهل هناك اليوم صوت يعلو فوق صوت الاستدامة ؟. إنها عمارة إنسانية وما أنسنة المدن اليوم إلا محاولة لإعادة شيء فقدناه. إنها عمارة مجتمع منه وإليه في برنامجها الوظيفي وفي معناها وفي مفرداتها وفي مواد بنائها، وهي نتيجة لذلك امتداد لأرضها، لمكانها، لموقعها، التي تبنى عليها. إنها عمارة مكان بكل ما يعني المكان من معنى، وهنا تتجسد عبقريتها، وهنا تفي هذه العمارة بمتطلباتها.
- غير أن كل تلك الأسس الصلبة لتلك العمارة أصبحت شيئا من الماضي وهو ما يستوجب الوقوف عنده قليلا. إن إحدى أهم مقاييس الحكم على بناء بعينه أو مخطط سكني أو ناطحة سحاب أو مجمع تجاري أو أي بناء كان هو مدى ارتباطه بمكانه، تماما كما هو الارتباط الفطري بين النبتة وتربتها في زرعها. ولأن مواد البناء لها الكلمة الفصل في علاقة البناء بأرضه، ولأن مواد البناء الحديثة هي نتاج مصانع وليست من نتاج الأرض، فإن أي علاقة بين العمارة ومكانها قد قضي عليها تماما. ومن هنا تبدو مدن العالم كل العالم مدنا مصطنعة لا منتمية.
- هناك بون شاسع بين النظر للعمارة على أنها استثمار عقاري أو اقتصادي أو ترويج لمنتج صناعي حديث للتو، أو لنشاط اجتماعي مؤقت. كل هذه القوى التي تحرك العمارة بالإمكان استيعابها إذا ما تم فهمها ضمن هذا المفهوم. ولنأخذ مواد البناء على سبيل المثال. أليس بالإمكان تطويع الخرسانة هندسيا لكي يصبح لديها القابلية لكي تعكس ملامح العمارة التقليدية «المكان بصفة عامة الذي صنعه الإنسان» في ملمسها ولونها وتكويناتها العضوية. اجتماعيا أليس من الممكن تطوير صناعة النسيج التقليدي بقضها وقضيضها لتكون مصدرا أساسيا لمدن اليوم.. الاستلاب العمراني، فقدان الهوية، عدم الانتماء للمكان، التشوه البصري، وقس على ذلك ما تراه وما تسمع عنه من مصطلحات تمر أمام ناظرينا مئات أو آلاف المرات من دون أدنى بادرة حل تلوح في الأفق. هذا ما حدا بالجهات المعنية بالتنمية العمرانية لإصدار كودات «جمع كود» للتغلب على هذه المعضلة. الكودات باختلاف مفاهيمها وتفاصيلها ليست سوى محاولات مؤسسة لربط العمارة المعاصرة بمكانها بأصلها، بغرسها في مكانها.
- تشترك العمارة والزراعة في اصلهما اللاتيني «ARCHITECTURE AGRICULTURE» في تالي الكلمتين والتي تعني عملية انتاج أو صنع الشيء. أليست العمارة في هذا الجانب عملية استزراع. أليس الحديث عن التراث والأنسنة والكودات حديثا عن عملية استزراع لشيء فقدناه. من ناحية تاريخية أليست عقود الجامع الاموي في قرطبة زرعا على سابقتها. اليست تراكمية العمارة الاسلامية عبر تاريخها هي عملية استزراع لها. ولأن الزرع نبت أصيل فإن استزراع العمارة يعني بالضرورة تأصيلها في تربتها الحاضنة لها.
- التنمية العمرانية والعمارة منها في المركز عملية بالغة التعقيد وللأسف فإن هذا الطرح يصعب تحقيقه في الوقت الراهن. غير أن كل المؤسسات المعنية بالتنمية، الحكومي منها والخاص معني بايجاد حلول للمستقبل، وهنا يأتي دور المبادرات النوعية والبحث العلمي والمسؤولية المؤسسية والاجتماعية في الاهتمام بهذا الجانب.
[email protected]